الحمد لله، والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وبعد...
فقد اتسم الفقه الإسلامي في عصرنا الحاضر بعدة سمات اختلف فيها عما وُسِم به في كنف نشأة المذاهب الفقهية وتدوينها، كما اختلفت أيضًا طرق تناول قضاياه، ولا يتعجب المرء من اختلاف طرائق تناول موضوعات الفقه أو اختلاف سماته في عصر عما كان عليه في عصور سابقة؛ وذلك لأن من أهم ثمرات الفقه تقديمَ حلول شرعية لنوازل ومشكلات الواقع، فالفقه يصطبغ لا محالة بمشكلات عصره الذي يعيش فيه.
ويتجلى ذلك فيما اصطُلح عليه بـ«فقه الأقليات»، والمقصود به: الأحكام الشرعية التي تكون أكثر مناسبة للمجموعات المسلمة الموجودة في قُطْرٍ من الأقطار الذي يكون معظم أهله وساكنيه من غير المسلمين.
ومصطلح فقه الأقليات مصطلح حادث لم يكن موجودًا في التراث الفقهي، بل استحدث تبعًا لمتغيرات العصر، والذي يؤكد ذلك أن الفقه المرتبط بهذه الأقليات فقه نوعي يراعى فيه ارتباط الحكم الشرعي بظروف جماعة ما في مكان محدَّد نظرًا لظروفها الخاصة من حيث كون ما يصلح لها لا يصلح لغيرها، فالظرف المكاني الذي تلبست به هذه الأقليات يجعل لهم في كثير من الأحوال مسوغات اضطرارية تلجئ المفتي إلى الإفتاء بما يخالف معتمد مذهبه أو الراجح في نظره من حيث الدليل، أو بما يخالف فتاوى المفتين في أماكن تكون فيه الغلبة أو السلطان للمسلمين. وعليه فيمكن أن نقول: إن موضوع فقه الأقليات هو الأحكام الفقهية المتعلقة بالمسلم الذي يعيش خارج بلاد الإسلام.
وهذا الفقه وإن كان ذا نمط خاص من حيث خصوصيته وموضوعاته ومشكلاته المتميزة إلا أنه ليس فقها مستقلا خارجًا عن إطار الفقه الإسلامي، ومرجعيته الكتاب والسنة وما ينبني عليهما من الأدلة كالإجماع والقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع والعرف والاستصحاب... ونحوها من الأدلة التي أسس عليها الأئمة آراءهم، وكثير من مسائل الأقليات لها نظائر تشبهها منصوص عليها في كتب الفقه التراثية، وإن كانت لها صورة جديدة معاصرة، فمن هنا تعتبر قديمة بالجنس حديثة بالنوع.
ومما سبق تظهر أهمية جمع الفتاوى والأحكام المتعلقة بالأقليات المسلمة؛ فهذا الجمع المتضمن ما اعتمدته جهة إفتاء معتبرة مساعد لهم كي يظلوا متشرعين متمسكين بأحكام دينهم مع اندماجهم في مجتمعاتهم التي يعيشون فيها دون أن يحصل تعارض بين أحكام شريعتهم ومقتضيات حياتهم بما يوقعهم في الضيق والحرج والعنت مما يتنزه عنه الشرع الشريف؛ كما قال تعالى: ﴿مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ﴾ [المائدة: 6]، وقال تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾ [الحج: 78]. وسنعرض لهذا المفهوم في محاور ثلاثة:
أولًا: التعريف بـ«فقه الأقليات»:
تعريف الفقه اللغوي والاصطلاحي معروف مشهور فلا داعي لاجترار ما كتب فيه، فنتجاوزه لتعريف الأقلية، وهي في اللغة: ضد الأكثرية، والقلة تعني في اللغة: الندرة أو العدم أو النقص، وهذا المعنى اللغوي ملحوظ في التعريف الاصطلاحي للأقليات؛ فقد عرَّفها بعضهم بأنها جماعة فرعية تعيش بين جماعة أكبر وتكوِّن مجتمعًا تربطه ملامح تميزه عن المحيط الاجتماعي حوله، وتعتبر نفسها مجتمعًا يعاني من تسلط مجموعة تتمتع بمنزلة اجتماعية أعلى وامتيازات أعظم تهدف إلى حرمان الأقلية من ممارسة كاملة لمختلف صنوف الأنشطة الاجتماعية أو الاقتصادية والسياسية، بل تجعل لهم دورًا محدودًا في مجتمع الأغلبية. والمعنى الملحوظ الذي نقصده في فقه الأقليات هو وجود المسلم في ديار لا تكون فيه الغلبة والحكم للمسلمين "بلاد غير إسلامية"، فالأقليات إذن: «كل مجموعة تعيش بين مجموعة مختلفة عنها في أحد السمات، وللأخيرة السيادة عليها».
وعلى ذلك فـ«فقه الأقليات» هو: الأحكام الشرعية المتعلقة بالمسلمين الذين يعيشون وسط جماعة غير مسلمة لها السيادة عليهم.
وخصيصة هذا النوع من الفقه أنه ذو نمط خاص من حيث موضوعاته ومشكلاته المتميزة، إلا أنه ليس فقهًا مستقلًّا خارجًا عن الإطار التشريعي العام، أو يعتمد على أسس مغايرة لما اعتمد عليه فقه المذاهب، فاعتماده يكون على الأدلة المتفق عليها أو المختلف فيها، كما أن كثيرًا من مسائل الأقليات لها نظائر تشبهها منصوص عليها في كتب الفقه التراثية وإن كانت لها صورة جديدة معاصرة، فتخصيص المسائل الشرعية المتعلقة بالأقليات المسلمة بنوع فقه هو اصطلاح قابل للموافقة والرفض، ويمكن أن يعتبر هذا النوع من الفقه الاجتهادي من قبيل الفتوى لطائفة معينة، ويكون حينئذ التطبيق الجلي لقضية تغير الفتوى بتغير المكان الذي هو إحدى جهات تغير الفتوى الأربعة، وبذلك تخرج من حساسية المصطلح ودلالته.
وبعيدًا عن ذلك فإن لب موضوع فقه الأقليات هو التعامل مع المسائل المرتبطة به بنظرة مختلفة عنها إذا نوقشت في واقع آخر مختلف، ولعل رحابة الأقوال في المسائل الاجتهادية والواقع الذي يكتنف المسلم الذي يعيش في بلد غير مسلم يحتِّم هذا المنزع في التعامل مع تلك المسائل بهذه النظرة المختلفة. هذا، وإن كان كثير من الباحثين على أن أصل البحث جديد -كما تقدم- إلا أننا نرى أنه ليس كذلك، وأنه في مثل فتوى الأحناف بالعمل بالعقود الفاسدة في غير ديار المسلمين مثلا أو نحوها ما ينقض هذا، ويُثبت أن اختلاف الأحكام باختلاف الدار أصل أصيل موجود في تراثنا الفقهي.
ثانيًا: أهمية دراسة «فقه الأقليات»:
تزايد الاهتمام بدراسة أحوال المسلمين الموجودين في بلاد غير المسلمين ومشكلاتهم ومسائلهم مع نشوء جيل ليس فقط من المهاجرين إلى تلك البلاد، بل من أصحاب البلاد الأصليين الذين لهم حقوق المواطنة كمثلهم ممن لا ينتمون لدينهم، بل إن المهاجرين إلى تلك البلاد أصبحت لهم جاليات ومراكز تجمعهم وتعبِّر عنهم وتتحدث عن رغباتهم، ومنهم من تبوأ مراكز متقدمة في البلاد التي هاجروا إليها، وأصبحت لهم كلمة في صنع القرار، لكن في ظل سيادة وحكم غير المسلمين. وهذا الواقع المعقَّد يخلق حالة من إعادة النظر في المسائل الفقهية المتعلقة بالمسلمين هناك، وتزداد الحاجة إلى إعادة النظر كي يظل المسلم متشرعًا متمسكًا بأحكام دينه، ومعتقدًا أنه يقع تحت مظلة التشريع مع اندماجه في مجتمعه وعدم عيشه غريبًا عنه، ولعدم حصول تعارض بين أحكام الشريعة ومقتضيات حياتهم بما يوقعهم في الحرج أو المشقة أو حصول اليأس من تمسكهم بدينهم، فيكونون على وشك تركه بالكلية.
والتقليل من شأن الخطاب الفقهي لتلك الأقليات المسلمة يعكس مدى الجهل بما تعانيه هذه الأقليات من مشاكل، ولنضرب لذلك مثالًا:
فقد أصدرت دار الإفتاء عدة فتاوى في باب الربا واختارت فيها المذهب القائل بأنه لا ربا بين المسلم وغير المسلم في دار غير المسلمين وأيَّدته. فهذا مثال من أمثلة عديدة لا بد فيها من مراعاة حال السائل في جوابها، كما أن تلك المسائل ليست من وحي النظر بل يكثر السؤال عنها، وهو ما ينبئ عن الواقع الذي قد لا يجد المسلم الذي يعيش في تلك البلاد مفرًّا من التعامل والتكيف معه، فلئن كان له مخرج فقهي يظل معه متشرعًا، فتركه مع ما يصيبه من العنت والمشقة أمر غير مقبول.
ولا يتبادر إلى الذهن أن الغرض من دراسة «فقه الأقليات» هو تتبع الترخص أو اتباع الأقوال الضعيفة والشاذة، بل المراد هو مراعاة المقاصد، وفقه الواقع، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه المآلات، وهذا لا يعني بحال من الأحوال التنازل عن الثوابت التي وضعها الإسلام أو المساس بما يمثل هوية الإسلام، وقد سبق أن قلنا: إن هذا الفقه لا يخرج عن الإطار التشريعي العام، وهذا الإطار لا ينازع الثوابت أو الهوية.
ثالثًا: مرتكزات «فقه الأقليات»:
المقصود بمرتكزات فقه الأقليات: الأصول والأسس والضوابط التي يبنى عليها فقه الأقليات، وقد نادى أكثر الباحثين المعاصرين الكاتبين في فقه الأقليات بضرورة اعتماد أصول لهذا النوع من الفقه؛ استجابة لما تمليه ظروف هذه الأقليات في البلاد التي يعيشون فيها.
وقد اهتم الفقه الإسلامي المعاصر بوضع الأقليات الإسلامية في أوروبا منذ زمن، واتجه إليه بالمعالجة الشرعية التي أثمرت فقهًا من الفتاوى والأحكام ظل يثرى يومًا بعد يوم، ولكن هذا الاهتمام المتزايد بشأن الوجود الإسلامي بأوروبا وما أثمر من ثمار وما تراكم به من فقه ظل يفتقر إلى الحلقة الأساسية من حلقات النظر الفقهي التي من شأنها أن توجه الاجتهاد وترشده في معالجة شأن الوجود ليبلغ مداه المأمول، ألا وهي حلقة التأصيل الفقهي متمثلًا في تقعيد أصولي فقهي لفقه الأقليات مختص به ومبني على مراعاة خصوصية الوضع الذي يعيشه المسلمون بالبلاد الأوروبية من جهاته المختلفة. ولئن سلمنا بضرورة وجود أصول وضوابط ينشأ في كنفها فقه الأقليات فلا نسلم أن هذه الأصول بمعزل عن قواعد أصول الفقه التقليدي أو مغايرة لمباحثه ومسائله، بل هي من جملة موضوعاته، وإنما يتميز أصول فقه الأقليات بعمق الدراسة والتناول وحسن الترتيب والجمع، وهذا أيضًا من الخصائص التي تميِّز فقه الأقليات، فليس هذا النوع من الفقه خارجًا عن الإطار التشريعي العام كما مرَّ. والله تعالى أعلى وأعلم، والحمد لله أولًا وآخرًا.