(1) رأي الفقهاء في طهارة الكلب والقطة. (2) أداء صلاة الجماعة في المسجد لا يتوقف على سماع الأذان. (3) خطبة الجمعة بغير اللغة العربية. (4) دفن الموتى في صناديق منفصلة في حفرة واحدة. (5) إخراج زكاة المال في صالح شئون الدعوة الدينية. (6) حكم قبول المسلم لتبرع غير المسلم ووراثته له. (7) إسلام الزوجة وبقاء الزوج على دينه. (8)تقليد أحد المذاهب الأربعة (9)شراء منزل بالتقسيط عن طريق التمويل البنكي (10)كيف يتعامل المسلمون مع من يعادي الإسلام؟ (11) الاستيلاء على أموال غير المسلمين (12)العمليات التفجيرية (13) العمل في مكان يبيع الخمر والخنزير في بلاد غير المسلمين (14)كيفية الصيام في البلاد التي يطول فيها النهار عن المعتاد (15)استخدام ضمائر التذكير في حق الله تعالى (16)سكنى الرجل والمرأة الأجنبيين في مسكن واحد
(1) رأي الفقهاء في طهارة الكلب والقطة
السؤال: هل يعتبر الكلب حيوانًا نجسًا؟ وما هو الحال بالنسبة للقطط؟
الجواب:
حكم الكلب:
هناك رأيان:
الأول: رأي جمهور الفقهاء، وقد ذهبوا إلى نجاسة الكلب؛ وذلك لما رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «طُهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولاهُنَّ بِالتُّرَابِ»، وفي رواية: «فليرقه، ثم ليغسله سبع مرات». ومعنى ولغ: شرب مَا فِيهِ بأطراف لِسَانه أَو أَدخل فِيهِ لِسَانه فحركه. قال العلماء: لو لم يكن الكلب نجسًا لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفريغ الإناء وغسله؛ لأن تفريغ الإناء مما فيه بلا سبب تضييع للمال، والشرع نهى عن إضاعة المال. وهؤلاء القائلون بنجاسة الكلب اتفقوا على نجاسة سؤره (ما تبقى في الإناء بعد شربه) ورطوباته، بينما ذهب الشافعية والحنابلة إلى أن الكلب نجس كله؛ ذاته وسؤره وما خرج منه. الثاني: رأي المالكية وبعض الفقهاء، وقد ذهبوا إلى أن الكلب طاهر؛ لأن المالكية يرون أن كل كائن حيٍّ طاهرٌ، وقالوا إن الأمر في الحديث السابق بإراقة ما ولغ فيه الكلب وغسل الإناء إنما هو أمر تعبدي غير معقول المعنى، فلا يؤخذ منه نجاسة الكلب ولا ينسحب حكمه على غيره؛ لأن النجاسات لا يُشتَرَط فيها العدد، وبناء عليه قصر المالكية الغسل سبعًا على ما إذا ولغ الكلب في إناء فيه ماء فقط، ولم يوجبوا إراقة ما عدا الماء من الأشياء التي يلغ فيها الكلب، وكذلك إذا أدخل الكلب رجله أو لسانه بلا تحريك في الإناء، أو كان الإناء فارغًا ولعقه الكلب فلا يستحب غسله عندهم، واستدل بقوله تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ﴾ [المائدة: 4]، وأن الكلب لو كان نجس العين لتَنَجَّس الصيدُ بمماسته، قال الإمام ابن دقيق العيد في كتابه (إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام): "وَاسْتَدَلَّ الْمَالِكِيَّةُ بِجَوَازِ اتِّخَاذِهَا لِلصَّيْدِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ عَلَى طَهَارَتِهَا؛ فَإِنَّ مُلابَسَتَهَا مَعَ الاحْتِرَازِ عَنْ مَسِّ شَيْءٍ مِنْهَا شَاقٌّ، وَالإِذْنُ فِي الشَّيْءِ إذْنٌ فِي مُكَمِّلاتٍ مَقْصُودِه، كَمَا أَنَّ الْمَنْعَ مِنْ لَوَازِمِهِ مُنَاسِبٌ لِلْمَنْعِ مِنْهُ" اهـ. ومن أدلة المالكية على طهارة الكلب ما علقه البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: "كَانَتِ الْكِلابُ تُقْبِلُ وَتُدْبِرُ في الْمَسْجِدِ في زَمَانِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وآله وسلم فَلَمْ يَكُونُوا يَرُشُّونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ"، قال ابن بطال: "لأن إقبالها وإدبارها في الأغلب أن تجر فيه أنوفها وتلحس فيه الماء وفتات الطعام، لأنه كان مبيت الغرباء والوفود، وكانوا يأكلون فيه، وكان مسكن أهل الصفة، ولو كان الكلب نجسًا لمُنِع من دخول المسجد؛ لاتفاق المسلمين أن الأنجاس تجنب المساجد ... وقوله: "تُقبِل وتُدبِر" يدل على تكررها على ذلك، وتركُهم لها يدل على أنه لا نجاسة فيها، لأنه ليس في حيٍّ نجاسةٌ". وعلى قول الجمهور بنجاسة الكلب فليس معنى ذلك إيذاؤه أو قتله، بل أمر الشرع بالرحمة بالحيوان كلبًا كان أو غيره. حكم القطط وأما القطط فهي طاهرة عند جمهور الفقهاء الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة؛ حيث ورد في طهارتها قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما سُئِل عن الهرة فقال: «إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم» رواه أبو داود والترمذي، وصححه البخاري والعقيلي.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
--------------------------------------------------------------------------------------
السؤال: نحن جماعة من المقيمين بالخارج وفَّق الله سبحانه وتعالى بعض الإخوة في إقامة مسجد تقام به الشعائر، ووفقًا للقانون لا يحق لنا أن يخرج أي صوت من المسجد سواء أذان أو صوت مرتفع.
وقد أصدر أحد الشباب فتوى بعدم الذهاب للمسجد ما داموا لا يسمعون الأذان، واستشهد بقول النبي عليه الصلاة والسلام للرجل الأعمى الذي استأذنه في الصلاة في بيته: «أتسمع النداء؟ فأجب» وعلى هذا أصدر فتواه فيهم، ومنذ حوالي خمسة أشهر وأعداد المصلين تتناقص من المسجد.
فأرجو من فضيلتكم موافاتنا بالرد على سؤالي وهو: هل سماع الأذان شرط للذهاب للمسجد لأداء الصلوات حتى مع وجود مواقيت ونتائج مدوَّن بها هذه المواقيت؟
أولًا: لقد حثنا الإسلام على صلاة الجماعة لما لها من فضل عظيم في الدنيا والآخرة فهي تؤلف القلوب وتجمع بين المسلمين وتحثهم على الإخاء والتعارف والتعاون، وفوق كل ذلك فهي تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة لقوله صلى الله عليه وسلم: «صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة» رواه البخاري ومسلم. أما بالنسبة للأذان فقد شُرع للإعلام بدخول وقت الصلاة المفروضة أو للإعلام باقتراب دخول وقت صلاة الفجر عند بعض الفقهاء، وهو شعيرة من شعائر الإسلام، يجب العمل بها حتى ولو داخل المسجد، ولا يجوز تركها بحال من الأحوال، فغاية ما يؤديه الأذان إعلام المسلمين بدخول وقت الصلاة، فعند سماع المسلم الأذان يكون مكلفًا بأداء الصلاة في أي مكان صالح؛ المسجد وغيره، وصلاة الجماعة في المسجد أفضل للحديث المتقدم. ويمكن أن يعرف المسلم بدخول وقت الصلاة من خلال وسائل أخرى غير الأذان كالساعات والنتائج المدون عليها مواقيت الصلاة، فإذا ما عُلم وقت الصلاة بطريقة أخرى موثوق فيها غير الأذان فهذا يكفي لأداء الصلاة، وليس بلازم أن يسمع المسلم الأذان حتى يسعى إلى صلاة الجماعة في المسجد. أما بالنسبة لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الأعمى - وهو سيدنا عبد الله ابن أم مكتوم رضي الله تعالى عنه كما جاء مفسرًا في سنن أبي داود وغيره - فنصه: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل أعمى، فقال: يا رسول الله، ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرخص له فيصلي في بيته، فرخص له، فلما ولى دعاه، فقال له: «هل تسمع النداء بالصلاة؟» قال: نعم، قال: «فأجب» رواه مسلم. فدل هذا الحديث على أهمية صلاة الجماعة في المسجد حتى ولو من الأعمى ما دام علم بوقت الصلاة؛ وليس في الحديث دلالة على ربط الأداء في المسجد بسماع الأذان، وإنما الأذان في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم كان هو الوسيلة للإعلام عن الصلاة، أما في هذا العصر فيمكن معرفة وقت الصلاة بوسائل أخرى كالساعات الوقتية والنتائج المدون بها أوقات الصلاة، فما دام الأذان رُفع داخل المسجد فقد تحققت شعيرة الأذان، وليس في الحديث ما يدل –لا صراحة ولا ضمنًا- على ما استشهد به من أفتى بعدم الذهاب إلى المسجد لصلاة الجماعة ما داموا لا يسمعون الأذان. وفي واقعة السؤال وبناء على ما سبق:
فإنه ليس بشرط لمن أراد صلاة الجماعة في المسجد أن يسمع الأذان، ويكفيه أن يعلم بدخول وقت الصلاة بأي وسيلة أخرى كالساعات وغيرها.
ونهيب بالإخوة المسلمين في اليونان ألا يتعرضوا للفتوى إلا إذا كانوا متخصصين في علوم الشريعة حتى لا يوقعوا المسلمين في الحرج والخطأ.
السؤال: ما حكم إلقاء خطبة الجمعة بغير اللغة العربية مراعاة للغة الحاضرين؟
هناك الكثير من المسلمين ممن لا يعرفون العربية في بلاد الغرب، سواء كانوا من أهلها الأصليين أو من الأعاجم الذين وفدوا إلى تلك البلاد، وعند صلاة الجمعة يتحير الناس هل تتم الخطبة بالعربية مع عدم فهم أكثر المستمعين لها، أم تتم بلغة يفهمها أكثر المستمعين. وهذه المسألة تحدث عنها الفقهاء في كتاب الجمعة، وبعضهم تطرق إليها في كتاب الصلاة عند الكلام على القراءة في الصلاة هل تجوز بالفارسية أو لا؟
والمختار للفتوى -بناء على ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة- أن خطبة الجمعة بغير اللغة العربية أمر جائز لا شيء فيه، وتكون صلاة الجمعة صحيحة. ولكن ننبه على أن الأولى الإتيان بأركان الخطبة باللغة العربية خروجًا من خلاف الجمهور. والدليل على ذلك أن المقصد من الخطبة تبيين الموعظة والأحكام الشرعية التي تكون في مثل خطب الحج التي يقوم الإمام فيها بأعمال الحج، فليس من المعقول أن يتكلم الخطيب في جمع لا يفهمون كلامه، وهو بوسعه أن يفهمهم. وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [إبراهيم: 4] والمعنى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إلَّا بِلِسَانِ﴾ أي: بِلُغَةِ ﴿قَوْمه لِيُبَيِّن لَهُمْ﴾ لِيُفَهِّمهُمْ مَا أَتَى بِهِ. كما في "تفسير الجلالين". وما ذكرناه هو المعتمد عند الحنفية تبعًا لأبي حنيفة خلافًا لصاحبيه، قال الطحطاوي في شروط صحة الخطبة: "(و) الرابع (الخطبة) ولو بالفارسية من قادر على العربية" اهـ. "حاشية الطحطاوي على مراقي الفلاح" [ص 277، ط. مصطفى الحلبي] أي والشرط الرابع من شروط صحة خطبة الجمعة التلفظ بالخطبة ولو بغير اللغة العربية حتى ولو تمكن الخطيب من إيقاعها باللغة العربية. والصحيح عند الشافعية وجوب إلقاء أركان الخطبتين بالعربية، فإذا لم يكن ثم من يتمكن من الخطبة بالعربية ولم يمكنهم جميعًا تعلمها، جاز إلقاء الخطبة بلغة غير العربية مع الالتزام بالعربية في آيات القرآن أو بذكر الله بدلها أو يقف بقدر الآية عند العجز عن الآية والذكر. قال الشيخ زكريا الأنصاري في "أسنى المطالب في شرح روض الطالب" (1/ 257): "ويشترط كون أركان الخطبة بالعربية، لاتباع السلف والخلف، فإن أمكن تعلمها وجب على الجميع على سبيل فرض الكفاية، وكفى في تعلمها واحد، فإن لم يفعل عصوا ولا جمعة لهم، بل يصلون الظهر. فإن لم يمكن تعلمها خطب بلغته، وإن لم يعرفها القوم، فإن لم يحسن أن يترجم فلا جمعة لهم؛ لانتفاء شرطها " اهـ. مختصرًا. وهناك وجه عند الشافعية باستحباب إلقاء الخطبة بالعربية وعدم اشتراط التزامها؛ لأن المقصود الوعظ وهو حاصل بكل اللغات. "المجموع شرح المهذب" (4/ 522 - دار الفكر). وأجاز الحنابلة الخطبة بلغة غير العربية بشرط العجز عن العربية، ولكن مع الالتزام بالعربية في آيات القرآن إن أمكن، وإلا أحل محلها ذكر الله تعالى؛ قال العلامة البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" [2/ 33، ط. دار الفكر]: "(وَلا تَصِحُّ الْخُطْبَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ) عَلَيْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ (كَقِرَاءَةٍ) فَإِنَّهَا لا تُجْزِئُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ … (وَتَصِحُّ) الْخُطْبَةُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ (مَعَ الْعَجْزِ) عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّة؛ِ لأَنَّ الْمَقْصُودَ بِهَا الْوَعْظُ وَالتَّذْكِيرُ وَحَمْدُ اللَّهِ وَالصَّلاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِخِلافِ لَفْظِ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ دَلِيلُ النُّبُوَّةِ وَعَلامَةُ الرِّسَالَةِ وَلا يَحْصُلُ بِالْعَجَمِيَّةِ (غَيْرَ الْقِرَاءَةِ) فَلا تُجْزِئُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ لِمَا تَقَدَّمَ (فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا) أَيْ الْقِرَاءَةِ (وَجَبَ بَدَلَهَا ذِكْرٌ) قِيَاسًا عَلَى الصَّلاةِ" اهـ.
وبناء على ما في واقعة السؤال نقول: المختار للفتوى ما ذهب إليه الحنفية من أن خطبة الجمعة بغير اللغة العربية أمر جائز لا شيء فيه، ولو كان هناك مَن يحسن العربية، ومراعاة للخلاف إن استطاع الخطيب أن يأتي بأركان الخطبة باللغة العربية، ثم يترجمها بعد ذلك، فهو الأحسن، وقد جاء في قرارات مجمع الفقه الإسلامي: "الرأي الأعدل هو أن اللغة العربية في أداء خطبة الجمعة والعيدين في غير البلاد الناطقة بها ليست شرطًا لصحتها، ولكن الأحسن أداء مقدمات الخطبة وما تضمنته من آيات قرآنية باللغة العربية؛ لتعويد غير العرب على سماع العربية والقرآن، مما يسهل تعلمها، وقراءة القرآن باللغة التي نزل بها، ثم يتابع الخطيب ما يعظهم به بلغتهم التي يفهمونها" اهـ.
نظام دفن الموتى في بعض الدول كأستراليا أن يحفر للميت حفرة بعمق ستة أو سبعة أمتار ثم يوضع المتوفى في صندوق وينزل في هذه الحفرة، ثم يموت آخر فيوضع في صندوق ويوضع فوق الأول ثم يموت ثالث فيوضع في صندوق ويوضع فوق الثاني وهكذا، وبين كل صندوق وآخر طبقة من التراب.
والسؤال: هل هذا دفن شرعي أم مخالف للشرع؟ مع العلم بأنه لا توجد ضرورة لذلك حيث إن الأرض متسعة.
الجواب
الأصل عند الفقهاء كراهة الدفن في الصندوق (التابوت) لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه أنهم دفنوا فيه، ولأن الأرض أفضل لجسد الميت. لكن مثل هذه الطريقة المسئول عنها في الدفن ليس فيها محظور شرعي، بل هي طريقة متفقة مع الشرع إذا كان الدفن في مقابر خاصة بالمسلمين؛ لأن المعتبر في الدفن الشرعي هو ستر الميت في حفرة تمنع نفاذ رائحته، وتحميه من أي اعتداء. والدفن في التابوت يحقق هذا المقصد، وقول الفقهاء بكراهة الدفن فيه يستثنى منه وجود مصلحة في الدفن فيه أو وجود حاجة تستدعي ذلك، ومن الحاجة اندماج المسلمين في التعايش مع أهل بلدهم وعدمُ مخالفة أعرافهم ما دامت لا تخالف حكمًا شرعيًّا، وما دامت طريقة الدفن في بلد ما لا تخالف أمرًا قطعيًّا فلا مانع منها شرعًا، وليس من مقصد الشريعة مخالفة أعراف الناس ما دامت لا تخالف مجمعًا عليه، قال الإمام السرخسي الحنفي في "المبسوط" (2/ 62، ط. دار المعرفة): "وكان الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل -رحمه الله تعالى- يقول [عن بناء القبر بنوع من الطوب يسمى (الآجر) كان يستخدم لأغراض كالتزيين وإحكام البناء مما لا يليق بالقبر في زمنهم]: لا بأس به في ديارنا؛ لرخاوة الأرض، وكان يُجوِّز استعمالَ رفوف الخشب واتخاذ التابوت للميت حتى قالوا: لو اتخذوا تابوتًا من حديد لم أرَ به بأسًا في هذه الديار" اهـ. والأصل أن يُدفَن كل ميت في قبر مستقل، ولا يجمع بين أكثر من واحد إلا لحاجة، وجماعة من الفقهاء يرون أن ذلك مستحب وليس واجبًا وهي رواية عن الإمام أحمد اختارها جماعة من أصحابه وهو قول الإمام الرافعي من الشافعية. ولكن الصورة المسئول عنها ليس فيها دفن أكثر من ميت في قبر واحد؛ لأن الدفن فيها يكون في تابوت، وبين كل تابوت وآخر حاجز ترابي يجعل كلًّا منهما بمثابة قبر مستقل، قال الإمام السرخسي في "شرح السير الكبير" (1/ 234، ط. الشركة الشرقية): "ينبغي عند الحاجة أن يَجعل بين كل ميتين حاجزًا من التراب كي يصير في حكم قبرين، وعلى هذا الوجه لا بأس بدفن المرأة والرجل في قبر واحد" اهـ. وهناك من الفقهاء من أجاز دفن أكثر من مسلم في قبر واحد ولو من غير ضرورة، ولكن بشرط الفصل بينهما، وهي رواية عن الإمام أحمد وبه قال الحافظ أبو محمد بن حزم. راجع: "الإنصاف" (2/ 387، ط. دار إحياء التراث العربي)، "المحلى" (3/ 337، ط. دار الفكر). وبناء على ذلك وفي واقعة السؤال: فلا مانع من الدفن بهذه الطريقة المذكورة في السؤال، ولا حاجة إلى حمل المسلمين على تغييرها أو مخالفة أهل بلدهم فيها ما دام الدفن يتم في مدافن المسلمين المستقلة عن مدافن غيرهم.
السؤال: هل يجوز أن تخرج زكاة المال في إنشاء المجلات الإسلامية التي تدعو للإسلام والمشروعات العلمية الإسلامية والمكتبات العامة التي تختص بكتب الشريعة وتبليغ الدعوة وكذلك المراكز الإسلامية في بلاد غير المسلمين بالقيام بشئون الدعوة الإسلامية ونحو ذلك بما فيها من مرتبات للدعاة والقائمين عليها وتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها وتحفيظ القرآن لأبناء المسلمين بتلك البلاد ونحو ذلك وإذاعة البرامج عن طريق وسائل الإعلام المختلفة واستعمال الوسائل الإلكترونية وغير ذلك؟
فرض الله الزكاة على المسلم الغني الذي يمتلك نصابًا أو ما زاد عنه، والنصاب هو: (85 جم من الذهب عيار 21) بشرط أن يمر عليه عام هجري وهو في ملك صاحبه بشروطه الشرعية، وحدد مصارف هذه الزكاة في قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [التوبة: 60]. فمن المصارف: مصرف (فِي سَبِيلِ اللَّهِ) والراجح ما عليه جماهير الفقهاء من عدم جواز صرفه إلى عموم مصالح المسلمين من إنشاء الطرق والمستشفيات والمدارس والمساجد ونحو ذلك، بل هذه المصالح توقف لها الأوقاف أو يتصدق عليها بالصدقات المختلفة سوى الزكاة. وأما ما يدخل تحت عبارة (وفي سبيل الله) فأمور كثيرة؛ منها القيام بشئون الدعوة من تبليغ الدين للمسلمين ولغير المسلمين، سواء بالسنان أو باللسان؛ فالسنان نلجأ إليه في وقت الصدام المسلح لدفع العدوان أو رفع الطغيان كما أمرنا ربنا في قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾ [البقرة: 190]، واللسان نلجأ إليه في حالة السلم والتفاهم والحوار بين الناس، وكلاهما يجوز دفع الزكاة للقيام به. وهذا هو حقيقة الجهاد الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد؛ الأكبر ألا وهو جهاد النفس». أخرجه البيهقي في "الزهد الكبير". وهو ما يجعله غير مقصور على حالة الحرب، بل إنه مفهوم روحي يتعلق بعلاقة الإنسان بربه، قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت: 69]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ. وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ المَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ [الحج: 77-78].
وبناء على ما سبق وفي واقعة السؤال:
فإنه يجوز إخراج أموال الزكاة لإصدار المجلات الإسلامية والمكتبات العامة التي تنفع طلبة العلم والمراكز الإسلامية في القيام بمهامها وطباعة الكتب الدعوية ونحو ذلك مما يقوم به أمر الدعوة إلى الله بأي صورة كانت مما هو مذكور في السؤال أو غير ذلك من الصور، سواء في أوساط المسلمين أو في أوساط غير المسلمين.
السؤال: هل يرث المسلمُ غيرَ المسلم، ولماذا لا يرث الأبناء المسلمون آباءهم غير المسلمين؟ وهل يجوز لي أن آخذ الهبة المالية أو بعض الممتلكات من أبوي مما سجل في الوصية؟ وإذا كان يجوز لي أخذ الهبة، فهل هناك حدود لقيمة تلك الهبة؟ وهل يمكنني أن أكون الوصي البديل على تركة والدي؟
أولًا: ذهب جمهور الفقهاء إلى أن أنه لا توارث بين مسلم وكافر البتة، فلا يرث مسلم كافرًا ولا يرث كافر مسلمًا؛ واستدلوا على ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم» (متفق عليه)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يتوارث أهل ملتين» (رواه أبو داود والترمذي وابن ماجه)، والحكمة من كون المسلم لا يرث غير المسلم والعكس أن التوارث مبناه على النصرة والموالاة، ولا موالاة ولا مناصرة بين الكافر والمسلم. ثانيًا: يجوز للمسلم قبول هدية غير المسلم، وقد أباح الله تعالى البر والقسط مع الكافر الذي لم يقاتل، قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: ٨]. وفي "الصحيحين" من حديث أبي حميد الساعدي -رضي الله عنه- قال: "غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم تبوك، وأهدى ملك أَيْلَة للنبي صلى الله عليه وسلم بغلة بيضاء وكساه بُرْدًا". وملك أيلة كان كافرًا. فلا بأس بقبول الهدية من غير المسلم تأليفًا له لا سيما إذا كان قريبًا – كما هو وارد في السؤال-، ولا حدود لهذه الهبة ما دام الواهب يعطي عن طيب نفس ورضًا.
وكما تجوز الهبة من الكافر تجوز الوصية له، والوصية منه، فوصية الكافر للمسلم جائزة شرعًا بالاتفاق ما دامت بشيء مباح، فتصح وصية غير المسلم بما تصح به وصية المسلم، فلا حرج في قبول المسلم ما يوصى به إليه من غير المسلمين، وعليه فلا حرج على السائل في قبول الهدية أو الوصية من أبيه غير المسلم. ثالثًا: لا حرج عليك أيضًا في أن تصبح الوصي البديل على تركتهم؛ لأنه يصح وصاية غير المسلم إلى المسلم، يقول الإمام النووي: "ولا يجوز وصاية مسلم إلى ذمي، ويجوز عكسه". "روضة الطالبين" (6/ 311، ط. المكتب الإسلامي)، ويقول الشيخ الخطيب الشربيني: "تصح وصاية الذمي إلى المسلم اتفاقًا كما تصح شهادته عليه، وقد ثبتت له الولاية عليه، فإن الإمام يلي تزويج الذميات". "مغني المحتاج" (3/ 74، ط. دار الفكر).
والله تعالى أعلم.
أعلنت سيدة مسيحية متزوجة من مسيحي إسلامها أمام لجنة الفتوى؛ وبذلك ثبت إسلامها شرعًا، وصار لها ما للمسلمين من حقوق وعليها ما عليهم من واجبات، فمتى تعتبر هذه السيدة مطلقة ومحرمة على زوجها السابق المسيحي الديانة شرعًا؟ وما هي العدة التي يجب عليها أن تعتدها شرعًا قبل أن تتزوج برجل مسلم؟ وما هو تاريخ بداية العدة؟ وفي حالة وفاتها هل يرثها أولادها البُلَّغ والقصر؟
إذا كان الحال كما ورد بالسؤال فإنه بإسلام الزوجة المسيحية يَحرُم عليها تسليم نفسها لزوجها المسيحي؛ لقوله تعالى: ﴿فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ﴾ [الممتحنة: 10]، ولكن لا تحصل الفرقة بينهما حتى تُعلِم القاضي بإسلامها ليقوم بإبلاغ الزوج المسيحي بذلك: فلو أسلم استمرت الزوجية بينهما بموجب العقد القديم، ولو أبى الإسلام حكم القاضي بالفرقة بينهما، وهي فرقة طلاق بائن، ومن تاريخ حكم القاضي بالطلاق تبدأ العدة، فإن كانت المرأة من ذوات الحيض فعدتها ثلاث حيضات كوامل، وإن كانت حاملًا فعدتها بوضع الحمل، وإن كانت من غير ذوات الحيض فعدتها ثلاثة أشهر. قال صاحب "بدائع الصنائع" في الفقه الحنفي: (وجُملةُ الكَلامِ فيه أَنَّ الزَّوجَينِ الكافِرَينِ إذا أَسلَمَ أَحَدُهما في دارِ الإسلامِ: فإن كانا كِتابِيَّينِ، فأسلَمَ الزَّوجُ، فالنِّكاحُ بحالِه؛ لأَنَّ الكِتابِيَّةَ مَحَلٌّ لنِكاحِ المُسلِمِ ابتِداءً، فكذا بَقاءً، وإن أَسلَمَتِ المَرأَةُ لا تَقَعُ الفُرقةُ بنَفسِ الإسلامِ عندنا، ولكن يُعرَضُ الإسلامُ على زَوجِها، فإن أَسلَمَ بَقِيا على النِّكاحِ، وإن أَبى الإسلامَ فَرَّقَ القاضِي بينهما؛ لأَنَّه لا يَجُوزُ أَن تَكُونَ المُسلِمةُ تَحتَ نِكاحِ الكافِرِ، ولهذا لم يَجُز نِكاحُ الكافِرِ المُسلِمةَ ابتِداءً، فكذا في البَقاءِ عليه) اهـ. وقوله: (لا تقع الفرقة بنفس الإسلام عندنا) أي ولكن تقع بإباء الزوج، وذلك خلافًا لغير الحنفية الذين يرون أن الفرقة سببها نفس الإسلام وما قلناه ودللنا عليه من كتب السادة الأحناف هو ما عليه العمل إفتاء وقضاءً؛ لأنه إذا كانت المسألة المعروضة في الأحوال الشخصية لا تندرج تحت مواد القانون فيطبق عليها أرجح الأقوال في مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى. وأما الأولاد القصر (غير البالغين) لهذه المرأة التي أسلمت فهم مسلمون حكمًا؛ لأنه يُحكَم لغير البالغين بالإسلام تبعًا للمسلم من أبوَيهم وقد أسلمت أمهم فيتبعونها، وأما البالغون فبحسب ما يختارون من الدِّين، فإذا ماتت هذه السيدة يرثها أولادها غير البالغين، وكذلك مَن يختار الإسلام من أولادها البالغين، دون من يختار غير الإسلام منهم، فلا ميراث لهم؛ لأن اختلاف الدِّين مانع من موانع الميراث؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يَتَوارَثُ أَهلُ مِلَّتَينِ شَتّى»، أخرجه أبو داود وابن ماجه وأحمد والبيهقي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما.
هناك أناس يمنعون اتباع أحد المذاهب السنية الأربعة، وحجتهم في ذلك أنه يجب على المرء اتباع القرآن والسنة فقط، وأن المذاهب الأربعة ذاتها منعت اتباع أحدها، فهل يلزم اتباع أحد هذه المذاهب؟ وهل صح عن المذاهب الأربعة قولهم بأنه لا يجوز التقليد؟
المكلفون بالنسبة لأحكام الشريعة وأدلتها قسمان:
قسم قادر على النظر في الأدلة الشرعية لأخذ الأحكام بطريق الاجتهاد، وقسم دون ذلك.
والأول: هم المجتهدون، والثاني: هم المقلِّدون، ولا بُدَّ لكل منهما من معرفة الحكم الشرعي؛ ليعمل به حسبما كُلِّف. فالأول بمقتضى التكليف العام مأمور بالاجتهاد؛ بأن يبذل كل ما لديه من جهد وطاقة علمية وذهنية في استخراج الحكم الشرعي من الدليل، والثاني لكونه غير قادر على النظر مأمور بتقليد المجتهد لمعرفة الحكم الشرعي. وجمهور الأصوليين على أن المقلِّد يشمل: العامي المحض؛ لعجزه عن النظر والاجتهاد، والعالم الذي تعلم بعض العلوم المعتبرة في الاجتهاد، ولكنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد، فكل منهما يلزمه التقليد. وقد اتفق العلماء على مشروعية التقليد ووجوبه عند عدم التمكن من الاجتهاد، يقول العلامة الشيخ محمد حسنين مخلوف في كتابه: "بلوغ السول" (ص 15) تحت عنوان "استناد أقوال المجتهدين إلى المآخذ الشرعية": "وقد اعتبر الأصوليون وغيرهم أقوال المجتهدين في حق المقلدين القاصرين كالأدلة الشرعية في حق المجتهدين، لا لأن أقوالهم لذاتها حجة على الناس تثبت بها الأحكام الشرعية كأقوال الرسل -عليهم الصلاة والسلام- فإن ذلك لا يقول به أحد؛ بل لأنها مستندة إلى مآخذ شرعية بذلوا جهدهم في استقرائها وتمحيص دلائلها مع عدالتهم، وسَعة اطلاعهم، واستقامة أفهامهم وعنايتهم بضبط الشريعة، وحفظ نصوصها، ولذلك شرطوا في المستثمر للأدلة المستنبط للأحكام الشرعية من أدلتها التفصيلية -لكونها ظنية لا تنتج إلا ظنا- أن يكون ذا تأهل خاص وقوة خاصة وملكة قوية يتمكن بها من تمحيص الأدلة على وجه يجعل ظنونه بمثابة العلم القطعي؛ صونا لأحكام الدين عن الخطأ بقدر المستطاع". ثم قال: "وكما أمر الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- المستعدِّين للاجتهاد ببذل الوسع في النظر في المآخذ الشرعية لتحصيل أحكامه تعالى، أمر القاصرين عن رتبة الاجتهاد من أهل العلم باتِّباعهم والسعي في تحصيل ما يؤهلهم لبلوغ هذا المنصب الشريف، أو ما هو دونه حسب استعدادهم في العلم والفهم، وأمر العامَّة الذين ليسوا من أهل العلم بالرجوع إلى العلماء والأخذ بأقوالهم كما قال تعالى: ﴿فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، أي: بحكم النازلة ليخبروكم بما استنبطوه من أدلة الشريعة". فالمجتهد إذن ينظر في الأدلة بما آتاه الله سبحانه وتعالى من مؤهلات وإمكانات عقلية ومعارف شرعية ليتوصل إلى الحكم الفقهي ويعمل به، وغير المجتهد يحتاج إلى أن يعبد الله تعالى وفق مراد الله سبحانه فيستعين بالمجتهد في معرفة الحكم الشرعي، فيخبره بالحكم مقرونًا بدليله من قول الله تعالى أو قول رسوله صلى الله عليه وسلم أو مجردا عنه، وذلك أن ذكر الدليل من المجتهد أو العالم الموثوق به بالنسبة لـمَن لم يعلم حكم الله تعالى في النازلة غير لازم، وبخاصة إذا كان المقلد غير قادر على أن يفهم وجه الدلالة كأكثر عامَّة الأمة، أو كان للدليل مقدمات يتوقف فهمها وتقريب الاستدلال بها على أمور لا يعرفها المقلد. وقد كان العوام في زمن الصحابة والتابعين إذا نزلت بهم حادثة أو وقعت لهم واقعة يهرعون إلى الصحابة والتابعين ليسألوهم عن حكم الله في تلك الحادثة، وكانوا يجيبونهم عن هذه المسائل من غير أن ينكروا عليهم ذلك، ولم ينقل عنهم أنهم أمروا هؤلاء السائلين بأن يجتهدوا ليعرفوا الحكم بأنفسهم، فكان ذلك إجماعًا من الصحابة والتابعين على أن مَن لم يقدر على الاجتهاد فطريق معرفته للأحكام هو سؤال القادر عليها، فتكليف العوام بالاجتهاد فيه مخالفة لهذا الإجماع السكوتي. وكذلك فإن القول بمنع التقليد فيه تكليف مَن لا قدرة له على الاجتهاد بأخذ الحكم من الدليل، وهو تكليفٌ له بما لا يقدر عليه، فيكون منهيًّا عنه؛ لقوله تعالى: ﴿لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286]، ويضاف إلى ذلك أنه يؤدي إلى ترك الناس مصالحهم الضرورية والاشتغال عن معايشهم في الحياة الدنيا بتعطيل الحرف والصناعات لمعرفة الأحكام، وفي ذلك فساد للأحوال. واتباع المذاهب في إطار الدراسة والتفقه مما لا فكاك منه ولا بديل عنه؛ لأن هذه المذاهب الفقهية الأربعة المتبعة قد خُدِمت خدمة لم تتوفر لغيرها، فاعتنى الأئمة عبر العصور بنقلها وتحريرها ومعرفة الراجح فيها والاستدلال لها والترجمة لأئمتها، بما جعل كل واحدة منها مدرسة مستقلة لها أصول معلومة وفروع محررة يتحتم على من أراد التفقه في الدين أن يسلك أحدها متعلمًا ودارسًا ومتدربًا، فتكون بدايته هو من حيث انتهوا هم. وأما الاعتراض على اتباع المذاهب الأربعة بأن الدليل الذي أوجب الشرع علينا اتباعه هو الكتاب والسنة وليس كلام الأئمة. فجوابه: أن الدليل ليس هو الكتاب والسنة فقط، بل الدليل يشمل أيضًا الإجماع، والقياس، وقول الصحابي، وشرع من قبلنا، والعرف، والاستحسان... وغير ذلك. كما أن النظر في هذه الأدلة يحتاج إلى دراية وتمكن من علوم ومعارف كثيرة لا يتأهل لها كل الناس. وكذلك فإن أقوال الأئمة المجتهدين ليست مناقضة للكتاب والسنة، وإنما هي تمثل الفهم المنضبط للكتاب والسنة، وليست إلا بيانا وتوضيحا للحكم الشرعي، ومن ثم فإن الأخْذ بأقوال الأئمة ليس تركًا للآيات والأحاديث، بل هو عين التمسُّك بهما، فإن الآيات والأحاديث ما وصلت إلينا إلا بواسطتهم، مع كونهم أعلم ممن بعدهم بصحيح الأحاديث وسقيمها، وحسنها وضعيفها، ومرفوعها ومرسلها، ومتواترها ومشهورها، وتاريخ المتقدم والمتأخر منها، والناسخ والمنسوخ، وأسبابها، ولغاتها، وسائر علومها مع تمام ضبطهم وتحريرهم لها. وهذا كله مع كمال إدراكهم وقوة ديانتهم، واعتنائهم وورعهم ونور بصائرهم، فتفقهوا في القرآن والسنة على مقتضى قواعد العلوم التي لا بد منها في ذلك، واستخرجوا أسرار القرآن والأحاديث، واستنبطوا منها فوائد وأحكاما، وبيَّنوا للناس ما يخفى عليهم على مقتضى المعقول والمنقول، فيسروا عليهم أمر دينهم، وأزالوا المشكلات باستخراج الفروع من الأصول، ورد الفروع إليها، فاستقر بسببهم الخير العميم. وأما الاعتراض بأن أئمة المذاهب نهوا عن تقليدهم إذا خالف رأيهم الحديث الصحيح. فجوابه: أن دعوى أن الأئمة المجتهدين قد نهَوا عن تقليدهم مطلقًا هي دعوى باطلة؛ فإنه لم ينقل عن أحد منهم ذلك، ولو ثبت عنهم أنهم نهوا عن التقليد فامتثال هذا النهي بعدم التقليد يُعد تقليدا لهم، فلا يعقل أن نكف عن تقليدهم بتقليدهم. ولو سُلم ثبوت النقل عن الأئمة بالنهي عن تقليدهم فالمراد تحريم التقليد على مَن كان أهلا للاجتهاد. وأما ما نقل عن الإمام الشافعي من قوله: (إذا صح الحديث فهو مذهبي) وما شابه ذلك مما نقل عن غيره من الأئمة فقد أجاب الإمام النووي في مقدمة المجموع (1/ 105): "وهذا الذي قاله الشافعي ليس معناه أن كل واحد رأى حديثًا صحيحًا قال: هذا مذهب الشافعي، وعمل بظاهره, وإنما هذا فيمن له رتبة الاجتهاد في المذهب على ما تقدم من صفته أو قريب منه, وشرطه أن يغلب على ظنه أن الشافعي -رحمه الله- لم يقف على هذا الحديث أو لم يعلم صحته, وهذا إنما يكون بعد مطالعة كتب الشافعي كلها ونحوها من كتب أصحابه الآخذين عنه وما أشبهها، وهذا شرط صعب قَلَّ مَن يتصف به, وإنما اشترطوا ما ذكرنا؛ لأن الشافعي -رحمه الله- ترك العمل بظاهر أحاديث كثيرة رآها وعلمها, لكن قام الدليل عنده على طعن فيها أو نسخها أو تخصيصها أو تأويلها أو نحو ذلك.. قال الشيخ أبو عمرو: فمَن وجد من الشافعية حديثًا يخالف مذهبه نظر إن كملت آلات الاجتهاد فيه مطلقًا, أو في ذلك الباب أو المسألة كان له الاستقلال بالعمل به، وإن لم يكمل وشق عليه مخالفة الحديث بعد أن بحث فلم يجد لمخالفته عنه جوابًا شافيًا فله العمل به إن كان عمل به إمام مستقل غير الشافعي، ويكون هذا عذرًا له في ترك مذهب إمامه هنا, وهذا الذي قاله حسن متعين" اهـ.
أرجو التكرم بإفادتي بالحكم الشرعي في حالة شراء منزل بأستراليا عن طريق البنك، حيث يدخل كممول، حيث يتم تقدير قيمة المنزل مثلا بمبلغ 100 ألف دولار فيقوم البنك بالآتي:
1- عمل مديونية على المشتري بمبلغ 120 ألف دولار مثلا بزيادة قدرها 20 ألف دولار عن القيمة الأصلية على أن تقسط على عدد من السنوات يُتَّفق عليها.
2- يقوم البنك بدفع قيمة 100 ألف دولار للمالك الأصلي.
3- يقوم البنك إما بالاحتفاظ بعقد الملكية طرفه ولا يتم تسليمه للمشتري إلا بعد سداد كامل القيمة، أو يتم تسليم المشتري العقد ولكن بحظر على البيع لا يمكن للمشتري التصرف في المنزل إلا بعد الرجوع للبنك.
4- في حالة وجود مشترٍ جديد ورغبة المشتري الأول في البيع يُتَّفق على قيمة جديدة ولتكن 150 ألف دولار يخصم البنك منها أقساط المشتري الأول المسددة له ولتكن مثلا 60 ألف دولار ويعطي الباقي (وهو هنا مبلغ 90 ألف دولار) للمشتري الأول، ويقسط مبلغ 150 ألف دولار بالإضافة إلى الزيادة المتفق عليها مع البنك على المشتري الثاني.
هذه المعاملة هي في حقيقتها بيع بالتقسيط؛ ومن المقرر شرعًا أنه يصحّ البيعُ بثمنٍ حالّ وبثمن مؤجل إلى أجل معلوم، والزيادة في الثمن نظير الأجل المعلوم جائزة شرعا على ما ذهب إليه جمهور الفقهاء؛ لأنها من قبيل المرابحة، وهي نوع من أنواع البيوع الجائزة شرعًا التي يجوز فيها اشتراط الزيادة في الثمن في مقابلة الأجل؛ لأن الأجل وإن لم يكن مالًا حقيقة إلا أنه في باب المرابحة يُزاد في الثمن لأجله إذا ذُكِر الأجل المعلوم في مقابلة زيادة الثمن؛ قصدًا لحصول التراضي بين الطرفين على ذلك، ولعدم وجود موجب للمنع، ولحاجة الناس الماسّة إليه بائعينَ كانوا أو مشترين. ولا يُعَدّ ذلك من قبيل الربا؛ لأن القاعدة الشرعية أنه إذا توسطت السلعة فلا ربا.
وعليه وفي واقعة السؤال: فهذا من قبيل البيع بالتقسيط، وهو نوع من بيع المرابحة الجائز، كما أنه يجوز للمشتري الأول بيعها لمن يشاء بوساطة البنك أيضًا بالسعر الذي يُتَّفق عليه مع من يشاء، ولا حرج في ذلك شرعًا.
والله تعالى أعلم
يوجد حزب في هولندا يصف الإسلام بأنه دين التخلف، ويرى ثمة ارتباط مباشر بين الإسلام وبين السلوك الإجرامي. هل يعد ذلك عداء مباشرًا للإسلام والذي يعطي الأمة الحق أو مجرد فرض الجهاد "المعنوي"؟
الأصل في العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين هو السلم والتعايش، من خلال تمسك المسلم بهويته وثوابت دينه، واحترام رأي الآخر وسلوكه، فلا يعني التعايش تذويب الفوارق بين المسلمين وغيرهم، أو قبولهم نقد غير المسلمين للإسلام، بل على المسلم أن يتبادل المصالح مع غيره مع المحافظة على هويته، والجهاد من أجل دفع الافتراءات على الدين الإسلامي. والجهاد ليس محصورا في الجهاد القتالي، وإنما الجهاد الواجب هنا الذي يحافظ على مقصود التعايش هو تغيير الصورة الذهنية للآخرين عن الإسلام ببذل الوسع في تجسيد القيم والأخلاق الإسلامية من خلال معاملات المسلمين مع الناس جميعا؛ بأن يلاحظ المسلم دائما أنه مراقب ممن حوله؛ يلحظون تصرفاته وسلوكياته، وليس من حب الدين أن يتحرى المسلم الطعام الذي يقدم له فيسأل بحرص أهو حلال أو فيه لحم خنزير مثلا ولا يتحرى الحلال في المكسب، فيقبل الرشوة أو يغش الناس. والباحثون يقررون أنه "من الأفكار المغلوطة، أن نظن أن الناس يدخلون في الإسلام، لأنهم قرأوا عنه عدة كتب، لكن الحقيقة تكذب ذلك تمامًا، فمعظم -إن لم يكن كل -من دخلوه، كان بسبب مواقف شخصية واحتكاكهم بنماذج جيدة من المسلمين". ومن أنواع الجهاد الواجبة في هذه الحالة أيضا جهاد الكلمة، الذي يمثل نوعا من أنواع الدعوة إلى الله تعالى، من خلال بيان حقيقة الإسلام، والقيم والأخلاق التي يدعو إليها الإسلام، وبيان حقيقة الجهاد في سبيل الله تعالى، وأن العمليات التفجيرية التي يقوم بها بعض الناس لا يقرها الإسلام. ويجب على المسلمين هناك سواء كانوا من أهل البلد الأصليين أو من غيرهم أن لا يقوموا بردود أفعال عنيفة مع هؤلاء الناس، وذلك لأمرين:
1- حتى لا يسهموا في تأكيد هذه الصورة المغلوطة عن الإسلام والمسلمين، بل عليهم أن يوضحوا هذا اللبس، ويثبتوا للناس وبني وطنهم أن الإسلام هو دين الرحمة والحب والتعايش.
2- أنه من المقرر أن المسلم إذا دخل بلاد غير المسلمين – ولو كانوا أعداء والحالة حالة حرب- بتأشيرة دخول ونحوها فإنه يكون مستأمَنًا، ولا يجوز له حينئذ أن يقوم بأي انتهاك لحرماتهم أو تَعَدٍّ عليهم، ودماؤهم وأموالهم وأعراضهم عليه حرام ولو تعدَّى على شيء من ذلك كان غدرًا وخيانة منه على ما ذكر العلماء؛ لأن تأشيرة دخول المسلم إلى بلاد غير المسلمين عقدُ أمان؛ لأنهم لم يُعطُوه إياها إلا بشرط ترك خيانتهم وأمنهم على أنفسهم منه، وهذا إذا لم يكن مذكورًا في اللفظ فهو معلوم في المعنى كما يقول الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (١٢/ ٥٨٧، ط. دار الحديث): "مسألة: مَن دخل إلى أرض العدو بأمان لم يَخُنْهم في مالهم.. وأما خيانتهم فمحرمة؛ لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطًا بتركه خيانتَهم وأمنِه إياهم مِن نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكورًا في اللفظ فهو معلوم في المعنى" اهـ. وعقد الأمان يقتضي الاستئمان لطرفي العقد وأن كلًّا منهما جعل الآخر منه في أمان، فليس للمسلم حينئذ خيانتهم ولا الغدر بهم، قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" (4/ 164– 165، 188): "فإن أمّنوه أو بعضُهم وأدخلوه في بلادهم بمعروف عندهم في أمانهم إياه، وهم قادرون عليه، فإنه يلزمه لهم أن يكونوا منه آمنين.. فأمانهم إياه أمانٌ لهم منه، فليس له أن يغتالهم ولا يخونهم.. إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم أو يبلغوا مدة أمانهم، وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم.. ولا نعرف شيئًا يُروَى خلاف هذا" اهـ. والجهاد له مفهوم واسع في الإسلام، فمجرد توضيح الصورة بلسان الحال والمقال هو جهاد في سبيل الله، ولذلك قال أهل العلم: "مداد العلماء أعظم من دم الشهداء"؛ لأن الجهاد باللسان والدعوة وتوضيح المفاهيم يحقن الدماء ويحفظ المُهَج والأنفس.
هل يجوز للمسلم الذي يعيش في بلد غير مسلم أن يحتال لسرقة هذا البلد بحجة أنه يعادي الإسلام ويحارب المسلمين ويجب جهاده بشتى الوسائل؟
فقد التقيت أثناء إقامتي بالولايات المتحدة الأمريكية بسيدة مسلمة أخبرتني أنها تعتقد أن العدو الإسرائيلي يحاربنا عسكريًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا مستعينًا في حربه بالقوى العظمى وفي مقدمتها أمريكا، ولذلك يجب مقاومته بالأسلحة ذاتها، وأنها وجدت ثغرة في النظام الأمريكي يمكنها ضرب اقتصادهم من خلالها، وهي نظام بطاقات الائتمان.
وقد شرعت فعلا في الحصول على عدد كبير من هذه البطاقات، ثم استنفذت قيمتها بالسحب النقدي وبالشراء، ولم تقم بالسداد، ثم بدلت عنوانها حتى لا يصلوا إليها، وقد ذكرت لي أنها تعتقد بأن هذه الأموال التي حصلت عليها إنما تعد من قبيل الغنائم؛ حيث إننا في حرب مع العدو ومن يسانده، ومن بين ميادين هذه الحرب: المال والاقتصاد. فما الحكم الشرعي في هذا التصرف؟
الجهاد في سبيل الله أمر مشروع، وهو يكون بكل الوسائل التي ترفع شأن الأمة اقتصاديًّا وعسكريًّا، قال تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ [الحج: 78]، وروى البخاري عن ابن عباسt قال: قال رسول الله r: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية»، وحقيقة الجهاد كما قال الراغب: استفراغ الوسع في مدافعة العدو [المفردات في غريب القرآن، ص208، ط. دار القلم] و كما يكون الجهاد بالقتال والدفع يكون باللسان والقلم، وكما يكون بلسان المقال فإنه يكون أيضا بلسان الحال، وهو من أعظم الجهاد؛ لأن المسلم دائما – وبخاصة من كان في وسط غير مسلم- عليه أن يؤثر إيجابا في تشكيل الصورة الذهنية لغير المسلمين عن الإسلام؛ بأن يتمثل كل القيم والأخلاق الجميلة التي يتبناها الإسلام ويدعو إليها. وأما الغدر بأهل البلد ومؤسساتها بالاحتيال في نهب المال بحجة أنها تحارب المسلمين والإسلام أو تدعم من يحاربهما فإنه يؤثر سلبا على صورة الإسلام في أذهان غير المسلمين. كما أن هذه المسلم شأنه شأن كل مسلم في البلاد غير المسلمة إما أن يكون من أهل البلد الأصليين وإما أن يكون من بلد أخرى ودخل بتأشيرة دخول من الدولة غير المسلمة، وفي الحالتين لا يجوز له أن يتعرض لأموال غير المسلمين بنهب أو سرقة. ففي حالة ما إذا كان غريبا عنها ودخل بتأشيرة، فإن هذه التأشيرة تقوم مقام عهد الأمان، فلا يحل له بمقتضى هذا العهد أن يتعرض لهم بأي أذى؛ لأنهم لم يُعطُوه إياها إلا بشرط ترك خيانتهم وأمنهم على أنفسهم منه، وهذا إذا لم يكن مذكورًا في اللفظ فهو معلوم في المعنى كما يقول الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (١٢/ ٥٨٧، ط. دار الحديث): "مسألة: مَن دخل إلى أرض العدو بأمان لم يَخُنْهم في مالهم.. وأما خيانتهم فمحرمة؛ لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطًا بتركه خيانتَهم وأمنِه إياهم مِن نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكورًا في اللفظ فهو معلوم في المعنى" اهـ. وعقد الأمان يقتضي الاستئمان لطرفي العقد، وأن كلًّا منهما جعل الآخر منه في أمان، فليس للمسلم حينئذ خيانتهم ولا الغدر بهم. فكما لا يجوز الغدر بغير المسلمين متى دخلوا بلاد الإسلام مستأمَنين، فكذلك الحال بالنسبة للمسلم إذا دخل بلاد غير المسلمين بتأشيرة دخول ونحوها فإنه يكون مستأمَنًا، ولا يجوز له حينئذ أن يقوم بأي انتهاك لحرماتهم أو تَعَدٍّ عليهم، ودماؤهم وأموالهم وأعراضهم عليه حرام ولو تعدَّى على شيء من ذلك كان غدرًا وخيانة منه على ما ذكر العلماء، والغدر منهي عنه شرعا، كما أن الوفاء بالعقود والعهود واجب شرعا، وكل مساس بحقوق المعاهدين يعتبر نكثًا لهذا العهد ونقضًا لذلك العقد، وهو الأمر الذي نهت عنه النصوص وأمرت بخلافه؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا اؤتمن خان، وإذا حَدَّث كذب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر». وقد نبه على هذا الأئمة، فقال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" (4/ 164– 165، 188): "فإن أمّنوه أو بعضُهم وأدخلوه في بلادهم بمعروف عندهم في أمانهم إياه، وهم قادرون عليه، فإنه يلزمه لهم أن يكونوا منه آمنين.. فأمانهم إياه أمانٌ لهم منه، فليس له أن يغتالهم ولا يخونهم.. إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم أو يبلغوا مدة أمانهم، وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم.. ولا نعرف شيئًا يُروَى خلاف هذا" اهـ. وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني في "السير الكبير مع شرح السرخسي(2/66-67)، ط. دار الكتب العلمية): "ولو أن رهطًا من المسلمين أتوا أول مسالح أهل الحرب [موضع تجمع المسلحين] فقالوا: نحن رسل الخليفة، وأخرجوا كتابًا يشبه كتاب الخليفة أو لم يخرجوا، وكان ذلك خديعةً منهم للمشركين، فقالوا لهم: ادخلوا، فدخلوا دار الحرب، فليس يحل لهم قتلُ أحد من أهل الحرب ولا أخذُ شيء من أموالهم ما داموا في دارهم" اهـ. قال شارحه: "لأنه لا طريق لهم إلى الوقوف على ما في باطن الداخلين المسلمين حقيقةً، وإنما يُبنَى الحكمُ على ما يُظهرون؛ لوجوب التحرز عن الغدر، وهذا لِمَا بيّنا أن أمر الأمان شديد والقليل منه يكفي" اهـ. وفي حالة ما إذا كان مواطنا من أهل البلد لا يحل له ذلك أيضا؛ لأن ما بين المسلمين ومن يساكنهم في الوطن قائم مقام العهد الذي يحفظ به الدم والمال، قال الشيخ محمد أنور الكشميري في فيض الباري على صحيح البخاري (4/ 227) في بيان العلاقة بين المسلمين في الهند وغير المسلمين: والذي تحقق عندي أن أهل الهند وإن لم يعاهدوهم حقيقة، غير أن المعاهدة قامت بينم وبين السلطنة عملا؛ فإن رفع الدعوى إلى المحكمة والاستغاثة بهم، والاستعانة منهم في فصل الأقضية في الأموال والأنفس، والرجوع في كل ما يرجع فيه إلى الحكام معاهدة حكما، وإن لم يكتبه أحد من الفقهاء؛ وحينئذ تنقل التفاريع، ولا تكون لنا أحكام الأسرى ". وعليه وفي واقعة السؤال: فإن ما قامت به هذه السيدة أمر محرم شرعًا، ولا يتفق مع أحكام الدين الإسلامي، فيجب أن يكون المرء أمينًا يؤدي حقوق الآخرين مسلمين أو غير مسلمين، ويجب على هذه السيدة أن تسدد ثمن هذه البطاقات لأصحابها، وأن تستغفر الله على ما أقدمت عليه من ذنب وتتوب إليه.
ما حكم العمليات التفجيرية ضد المسلمين وغير المسلمين؟ وهل يختلف حكمها في بلاد الغربيين عن حكمها في بلاد المسلمين؟
العمليات التفجيرية المسؤول عنها والتي انتشرت مؤخرا صنفان: صنف حصل في بلاد غير المسلمين كلندن ومدريد، وصنف حصل في بلاد إسلامية كباكستان والسعودية ومصر والمغرب وغيرها، وهذان الصنفان لا شك في حرمتهما شرعًا. أما التفجيرات التي تمت في البلاد الإسلامية فحرمتها ظاهرة سواء كان المستهدف مسلما أو غير مسلم، وذلك لأمور:
أولا: مخالفتها للنصوص الشرعية: ومخالفة هذه التفجيرات للنصوص الشرعية من أوجه؛
(أ) منها أنها أدت إلى قتل المواطنين المسلمين الأبرياء، وهؤلاء الناس من ذوي النفوس المعصومة، وقد عظَّم الشرع الشريف الدم عموما ودم المسلم على وجه الخصوص ورهّب ترهيبًا شديدًا من إراقته أو المساس به بلا حق؛ قال تعالى: ﴿مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ [المائدة: 32]. وقال سبحانه: ﴿ وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 93]. روى النسائي في سننه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم»، وروى ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالكعبة ويقول: «ما أطيبك وأطيب ريحك، ما أعظمك وأعظم حرمتك، والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ماله ودمه وأن نظن به إلا خيرًا». وما يتكئ عليه هؤلاء في قتل المسلمين من رميهم بالكفر، فإثم كبير وذنب عظيم؛ لأن نصوص الشريعة قاضية بأن المسلم الذي يشهد بلسانه الشهادتين يعصم نفسه وماله، ويسمى عند أهل الحق جميعا (المسلم الصعب)؛ لأنه يصعب إخراجه عن الملة، إلا إذا أتى بشيء من المكفرات قاصدا عالما مختارا، كتصريحه بأنه ليس بمسلم، أو أنه ينكر وجود الله، أو أنه نبي مرسل، أو أن القرآن ليس كلام الله، أو يسجد لصنم، أو يستحل زنا المحارم، أو غير ذلك من البلايا التي لا يقول بها مسلم من أهل القبلة، أما الاعتماد على الهوى ومجرد المخالفة في التكفير فلا يجوز، ويدخل تحت الوعيد الوارد في النص النبوي. كما أنه لا ينبغي للمسلم أن يتسرع في نسبة أخيه المسلم إلى الكفر ولو سمع منه كلاما أو رأى منه فعلا ظاهره الكفر؛ لأنه يجب أن يحمل قوله أو فعله على المعنى اللائق بانتسابه للإسلام ولعقيدة التوحيد، وهذا مبني على قاعدة شرعية، وهي أن الأصل في الأفعال التي تصدر من المسلم أن تُحمَل على الأوجه التي لا تتعارض مع أصل التوحيد، ولا يجوز أن نبادر برميه بالكفر أو الشرك؛ فإن إسلامه قرينة قوية توجب علينا ألا نحمل أفعاله على ما يقتضي الكفر، وتلك قاعدة عامة ينبغي على المسلمين تطبيقها في كل الأفعال التي تصدر من إخوانهم المسلمين، وقد عبر الإمام مالك إمام دار الهجرة -رحمه الله- تعالى عن ذلك بقوله: "من صدر عنه ما يحتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهًا ويحتمل الإيمان من وجه حُمِل أمره على الإيمان". وعلى فرض ثبوت الكفر في حق شخص فإنه لا يجوز أن يتعامل معه غيره من الأفراد أو الجماعات بهذه الطرق التدميرية، وإنما يوكل أمره إلى ولي الأمر لينفذ فيه حكم الله تعالى. (ب) ومن وجوه مخالفتها أنها قد تصيب المواطنين من غير المسلمين عمدا أو بغير عمد، وهؤلاء لهم حقوق تجب رعايتها، ولا يجوز إيذاؤهم بأي شكل من أشكال الإذاية، ففي سنن أبي داود (4/ 658) عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة" فعدم جواز التعرض لهم بالقتل والتدمير أولى. وبهذا العهد كتب سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه إبان ولايته على مصر، فقال:" إن معك أهل الذمة والعهد، فاحذر يا عمرو أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم خصمك". وقد جاء النص الصريح بالإحسان إليهم، ومعاملتهم بالعدل، ماداموا مسالمين، قال تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ )[الممتحنة:8]. حتى قال العلماء إن أهل الكتاب لو دخلوا في العهد مع المسلمين ثم نقضوا العهد معهم، ولم يقاتلوا المسلمين، فليس للمسلمين أن يقاتلوهم ولا يستبيحوا من أموالهم شيئا، يقول الماوردي في الأحكام السلطانية (ص: 227):" وإذا نقض أهل الذمة عهدهم لم يستبح بذلك قتلهم، ولا غنم أموالهم، ولا سبي ذراريهم ما لم يقاتلوا، ووجب إخراجهم من بلاد المسلمين آمنين حتى يلحقوا مأمنهم من أدنى بلاد الشرك، فإن لم يخرجوا طوعا أخرجوا كرها". (ج) ومن وجوه مخالفة هذه الأعمال للنصوص أنها استهدفت قتل وإذاية بعض الأجانب عن البلاد الموجودين فيها، وهذا فيه ما فيه من الغدر ونقض العهد؛ فمن دخل بلاد المسلمين من غير المسلمين بطريق قانوني شرعي فهو مستأمن يجب على المسلمين صيانة دمه وماله وعرضه، والأمان عقد من العقود وعهد من العهود، وكل مساس بدم المؤمَّن أو ماله أو عرضه يعتبر نكثًا لهذا العهد ونقضًا لذلك العقد، وهو الأمر الذي نهت عنه النصوص وأمرت بخلافه؛ قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، وروى البخاري في صحيحه عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها؛ إذا اؤتمن خان، وإذا حَدَّث كذب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر»، وروى ابن ماجه عن عمرو بن الحَمِق الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أَمِن رجلا على دمه فقتله فإنه يحمل لواء غدر يوم القيامة»، وفي رواية البيهقي والطيالسي في مسنده: «إذا أمن الرجل الرجل على نفسه ثم قتله فأنا بريء من القاتل وإن كان المقتول كافرًا». وروى البخاري عن علي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم فمن أخفر مسلمًا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرفٌ ولا عدلٌ». وقوله صلى الله عليه وسلم: «ذمة المسلمين» أي: عهدهم. وقوله: «يسعى بها أدناهم» أي: يتولى ذمتهم أقلهم عددًا فإذا أعطى أحد المسلمين عهدًا لم يكن لأحد نقضه، فما بالنا بولي الأمر، وقوله: «من أخفر» أي: نقض العهد، وقوله: «صرف ولا عدل» أي: لا فرضًا ولا نفلا، والمعنى: لا يقبل الله تعالى منه شيئًا من عمله. فالسائحون في عصرنا الحاضر هم مسافرون من الرجال والنساء دخلوا بلاد الإسلام بأمان، وحكمهم في ذلك حكم المستأمنين، والأمان عهد شرعي وعقد يوجب لمن ثبت له حرمةَ نفسه وماله، وقد أمر الشرع بالوفاء بالعهود، وجاءت الأدلة الشرعية الدالة على وجوب الوفاء بها عامةً في كل عهد، فحكم المستأمن: هو ثبوت الأمان له ووجوب الحفاظ على نفسه وماله وعرضه، شأنه في ذلك كشأن أهل البلد ومواطنيها، فإذا وقع الأمان من الإمام أو من غيره للمستأمَن وجب على المسلمين جميعًا الوفاء به، فلا يجوز قتله، ولا أسره، ولا أخذ شيء من ماله، ولا التعرض له، ولا أذيته. قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" (4/ 107): "وإذا كان ذلك -يعني إذا وادع الإمام قوما أو أخذ منهم الجزية- فليس لأحد من المسلمين أن يتناول لهم مالا ودما" اهـ. وقال الإمام النووي في "روضة الطالبين" (7/ 474): "وإذا انعقد الأمان، صار المؤمَّن معصومًا عن القتل والسبي" اهـ. والأمان ينعقد شرعًا بكل ما يفيده؛ لفظًا وكتابةً وإشارةً وعرفًا، وبكل ما يفيد الغرض صريحًا أو كنايةً، وبأي لغة كانت، بل إن الأمان يُعطَى شرعًا لمن ظنَّ أنه أُمِّن ولو على جهة الخطأ ولا يجوز لنا الغدر به؛ حيث صرح علماء الشريعة بأن مجرد اعتبار غير المسلم لأمر ما أنه أمان له فإن ذلك يوجب عصمة دمه وماله. قال الإمام ابن الحاجب في "جامع الأمهات" من كتب السادة المالكية (246- 247، ط1 دار اليمامة): "ولو ظن الحربي الأمانَ فجاء، أو نَهَى الإمامُ الناسَ فعَصَوْا أو نَسُوا أو جَهِلُوا: أُمضِيَ أو رُدَّ إلى مأمنه" اهـ. وقال الإمامُ ابن جُزَيٍّ المالكي في "القوانين الفقهية" (ص 134 ط. دار الفكر): "ولو ظن الكافر أن المسلم أراد الأمان والمسلم لم يُرِدْه فلا يُقتَل، وإذا شرط الأمان في أهله وماله لزم الوفاء به.. ومَن دخل سِفَارةً لم يفتقر إلى أمان بل ذلك القصد يؤمنه..." اهـ. و(سفارة) بالكسر، يراد بها التوسط للإصلاح، (فهو سفير) كأمير، وهو المصلح بين القوم، وإنما سمي به لأنه يكشف ما في قلب كل من الفريقين ؛ ليصلح بينهما، ويطلق أيضا على الرسول؛ لأنه يظهر ما أمر به، وجمع بينهما الأزهري، فقال: هو الرسول المصلح. تاج العروس - دار الهداية (12/ 41). وقال الشيخ الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" من كتب السادة الشافعية (6/ 52 ط. الحلبي): "(ويصح) إيجاب الأمان (بكل لفظ يفيد مقصوده) صريحًا؛ كأجرتك وأمنتك أو لا تفزع كأنت على ما تحب, أو كن كيف شئت (و) يصح (بكتابة)" اهـ. بل نص الفقهاء على أن مجرد الإذن لغير المسلم بالدخول إلى بلاد المسلمين هو إعطاءٌ للأمان لا يجوز نقضه:
يقول الحافظ أبو عمر بن عبد البر المالكي في "الاستذكار في شرح مذاهب علماء الأمصار" (٥/ ٣٥): "كل ما اعتبره الحربي أمانًا من كلام أو إشارةٍ أو إذنٍ فهو أمانٌ يجب على جميع المسلمين الوفاءُ به" اهـ. وفي عصرنا الحاضر نُظِّم دخول البلاد رسميًّا في صورة تأشيرة الدخول أو المرور، وهي تقتضي بذاتها للحاصل عليها في المواثيق الدولية والأعراف الإنسانية الإذنَ بدخول البلاد والأمنَ على النفس والمال، بل إن مجرد الإذن بالدخول مفيد للأمان، وقد صح أن الأمان ينعقد بأي شيء يفيده، فثبت بذلك أن تأشيرة الدخول أمان، ويصبح ما تقتضيه هذه التأشيرة من العهود التي يجب الوفاء بها، والعهد ينعقد بكل ما يدل عليه، فإذا دخل بها غيرُ المسلم بلادَ المسلمين لأي غرض من الأغراض -سياحةً أو غيرَها- فهو مُسْتَأمَنٌ لا يجوز التعرض له في نفسه ولا في ماله، كيف وقد أفاد كلام العلماء أن اعتقاد الأمان يوجبه لصاحبه ولو كان حربيًّا، ولو على سبيل الخطأ. وعقد الأمان العام يعقده ولاة الأمور، أما عقد الأمان لعدد محصور كوفد سياحي أو تجاري مثلًا فيعقده كل مسلم حر عاقل بالغ بالاتفاق، وليس مقصورًا على ولي الأمر وحده، بل متى عقد مسلمٌ الأمانَ لغير مسلم وجب على جميع المسلمين الوفاءُ بذلك ولا يجوز الغدر بأهله، لقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «ذِمَّةُ المُسْلِمينَ وَاحِدَةٌ؛ يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِمًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَومَ القِيَامَةِ صَرْفًا ولَا عَدْلًا» متفق عليه من حديث علي بن أبي طالب كرم الله وجهه. فقوله -صلى الله عليه وآله وسلم- «ذمة المسلمين» أي: عهدهم، وقوله «يسعى بها أدناهم» أي: يتولى ذمتَهم أقلُّهم شأنًا أو عددًا؛ فإذا أعطى أحد المسلمين -فضلًا عن ولي أمرهم- عهدًا لم يكن لأحدٍ نقضُه، وقوله «من أخفر» أي: نقض العهد، وقوله «صرف ولا عدل» أي: لا يقبل الله تعالى منه شيئًا من عمله. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (4/ 86، ط. السلفية): "والمعنى: أن ذمة المسلمين سواءٌ؛ صدرت من واحد أو أكثر، شريف أو وضيع، فإذا أمَّن أحدٌ من المسلمين كافرًا وأعطاه ذمةً لم يكن لأحد نقضُه؛ فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد؛ لأن المسلمين كنفس واحدة" اهـ. وعلى ذلك تواردت نصوص الأئمة الفقهاء:
قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" (4/ 196): "فإذا أمن مسلم بالغ حر أو عبد يقاتل أو لا يقاتل أو امرأة فالأمان جائز.. وإذا أشار إليهم المسلم بشيء يرونه أمانًا فقال: أمنتهم بالإشارة فهو أمان" اهـ. وقال القاضي عبد الوهاب المالكي في "المعونة على مذهب عالم المدينة" (1/ 408، ط. دار الكتب العلمية): "أمان الحر المسلم العاقل البالغ لازم لا يجوز نقضه ذكرًا كان أو أنثى" اهـ. وقال الإمام ابن جُزَيٍّ المالكي في "القوانين الفقهية" (ص134، ط. دار الفكر): "التأمين ثلاثة أضرب: على العموم وينفرد بعقدهما السلطان، وهما الصلح والذمة، والثالث: خاص بكافر واحد أو بعدد محصور ويصح من كل مسلم مميز، فيدخل في ذلك المرأةُ عند الأربعة (أي المذاهب الأربعة) والعبدُ عند الثلاثة (يعني ما عدا المذهب الحنبلي)" اهـ. وقال الإمام ابن الحاجب المالكي في "جامع الأمهات" (246- 247): "ويجوز لأمير الجيش إعطاء الأمان مطلقًا ومقيدًا.. وكذلك كل ذكر حر مسلم عاقل بالغ أو مُجازٍ -يعني أجازه الإمام-... وأمان المرأة والعبد والصبي إن عقل الأمان مُعتبَرٌ على الأشهر" اهـ. وهؤلاء السائحون من غير المسلمين قد أمَّنهم ولي الأمر بالتأشيرة، والذين تعاقدوا مع هذه الوفود السياحية ونظموا لهم رحلاتهم واستوفدوهم إلى بلاد المسلمين قد أمَّنوهم، ومن سافر بهم من المسلمين وأوصلوهم إلى بلادهم فقد أمَّنهم، ومَن استقبلهم بالمطار وأدخلهم البلاد فقد أمَّنهم، فكل ذلك له حكم الأمان الذي يعصم دماءهم وأموالهم. بل إن أمّنهم مَن لا يجوز أمانُه عندنا كغير البالغ والمعتوه فظنوه أمانًا فدخلوا بلادنا فليس لنا أن نعرض لهم بل نبلغهم مأمنهم؛ لعدم تمييزهم بين من يجوز أمانه ومن لا يجوز. قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" (4/ 196): "وإذا أمن من دون البالغين والمعتوه قاتلوا أو لم يقاتلوا لم نجز أمانهم، وكذلك إن أمن ذمي قاتل أو لم يقاتل لم نجز أمانه، وإن أمن واحد من هؤلاء فخرجوا إلينا بأمان فعلينا ردهم إلى مأمنهم ولا نعرض لهم في مال ولا نفس من قبل أنهم ليسوا يفرقون بين من في عسكرنا ممن يجوز أمانه ولا يجوز" اهـ. فما تفعله هذه الطوائف الباغية من التعرض للسائحين والهجوم عليهم وقتلهم، هو افتئات على حكام المسلمين، بل هو افتئات على الأمة كلها وخرق لذمتها، بما يفقدها مصداقيتها. (ج) ثم إن هذه العمليات التي تستهدف غير المسلمين في الدول الإسلامية تخالف الأصل الذي تقرره الآيات القرآنية في العلاقة بين المسلم وغير المسلم، وهو السلم والتعايش، لقوله تعالى:" ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، وقوله عز وجل: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61]، وعلى ذلك تدل الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة وفعل المسلمين عبر العصور، حيث فتحوا عقول الناس وقلوبهم قبل أن يفتحوا بلادهم. (د) وأكثر من ذلك دلالة على حرمة هذه العمليات ومخالفتها للنصوص صراحة أنه لا يجوز قتل من دخل بلاد المسلمين بعهد، ولو كانت دولته في حالة حرب مع ذلك البلد المسلم، وذلك امتثالا لقوله تعالى:﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُون﴾[التوبة:6]
قال ابن كثير تفسير القرآن العظيم (4/ 114). "والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة، أو طلب صلح أو مهادنة أو حمل جزية، أو نحو ذلك من الأسباب، فطلب من الإمام أو نائبه أمانا، أُعطي أمانا ما دام مترددا في دار الإسلام، وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه". ثانيًا: مخالفتها للمقاصد الشرعية:
فالشرع الشريف أوجب المحافظة على خمسة أشياء أجمعت كل الملل على وجوب المحافظة عليها، وهي: الأديان، والنفوس، والعقول، والأعراض، والأموال، وهي ما تسمى بالمقاصد الشرعية الخمسة. (أ) ومن الجليّ أن التفجيرات المسؤول عنها – سواء استهدفت المسلم أو غير المسلم – تَعود على بعض هذه المقاصد الواجب صيانتها بالبطلان، وفي مقدمتها مقصد حفظ النفوس؛ فالمقتول إن كان هو الانتحاري القائم بعملية التفجير الذي يقحم نفسه في الموت إقحامًا بتلغيم نفسه أو نحو ذلك فهو داخل في عموم قول النبي -صلى الله عليه وسلم- -فيما رواه أبو عوانة في مستخرجه من حديث ثابت بن الضحاك رضي الله عنه-: «من قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة». وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ (يطعن) بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ومن شرب سُمًّا فقتل نفسه فهو يتحساه (يشربه) في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا ومن تردى (ألقى بنفسه) من جبل فقتل نفسه فهو يتردى في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا»، وبَوَّب الإمام النووي على هذا الحديث بابًا في شرحه لصحيح مسلم، فقال: "باب غِلظ تحريم قتل الإنسان نفسه وإن من قتل نفسه بشيء عذب به في النار". وإن كان غيره، فإن كان المقتول مسلمًا فقتله عمدًا عدوانًا كبيرة ليس بعد الكفر أعظم منها، وفي قبول توبته وعدمه خلاف بين الصحابة ومن بعدهم، وإن كان غير مسلم فإن كان في بلادنا فهو مستأمن كما قدمنا، وإن كان في بلاده فهو مواطن غافل لا جريرة له، وفي جميع الأحوال فإن نفوس هؤلاء مصونة يحرم التعدي عليها ويجب صيانتها. (ب) وكذلك تعود هذه التفجيرات بالبطلان أيضًا على مقصد حفظ الأموال؛ فلا يخفى ما ينتج عنها من إتلاف للأموال والمنشآت والممتلكات العامة والخاصة، وإتلاف المال وإضاعته مما جاء الشرع بتحريمه، وتزداد الحرمة وتتضاعف إذا كان هذا المال المتلَف ليس مملوكًا للمتلِف بل هو مملوك لغيره -كما هو الحال هنا-، فتتعلق الحرمة بمخالفة نهي الشرع من جهة وبحقوق المخلوقين من جهة أخرى. ثالثًا: ما يلزم عنها من مضار ومفاسد:
فمدار الشريعة المطهرة على جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتعطيلها، ولا يخفى على كل ذي لُبٍّ ما تجره هذه الأعمال التخريبية من مفاسد على المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها؛ منها أنها تستعمل وسيلة وذريعة للتدخل في الشؤون الداخلية للبلاد الإسلامية والتسلط عليها واستغلال خيراتها وانتهاب مواردها بحجة ملاحقة الإرهاب، أو المحافظة على المصالح الاقتصادية أو تحرير الشعوب، فمن أعان هؤلاء على تحقيق مقصدهم، وبلوغ مأربهم بأفعاله الخرقاء؛ فقد فتح على المسلمين وبلاد الإسلام ثغرًا، وأعان على انتقاص المسلمين، والتسلط على بلادهم، وهذا من أعظم الإجرام. واستعمال القتل والترويع، وتدمير الممتلكات والأموال داخل المجتمع المسلم، كما هو الحال في الأعمال التفجيرية في بلاد المسلمين فيسمى عند الفقهاء بـ"الحرابة"، والحرابة إفساد في الأرض وفساد، والمتلبس بها يستحقّ عقوبة أقسى من عقوبات القاتل والسارق والزاني؛ لأنّ جريمته منهج يتحرك فيه صاحبه ضدّ المجتمع. قال تعالى: ﴿إِنَّمَاجَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33]. وأما التفجيرات التي تمت في البلاد الغربية مستهدفة مسلمين أو غير مسلمين فإنها كذلك لا تجوز -حتى لو كنا في حالة حرب حقيقية مع غير المسلمين-؛ وذلك لما يلي:
أولا: مخالفتها الصريحة للنصوص الشرعية:
(أ) فإن الأصل في علاقة المسلمين بغيرهم هو السلم لا الحرب، وهو رأي جمهور العلماء؛ لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الأنفال: 61]، وقوله تعالى: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، وغير ذلك من الآيات التي تحض على الدخول في السلم، وكذلك مجموعة الأحاديث النبوية التي تضمنت نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن مقاتلة غير الذين يواجهون المسلمين بالعدوان والقتال وإن كانوا كافرين. فإذا انضاف إلى ذلك وجود المعاهدات الدولية بينهم وبين المسلمين وأنهم يفتحون باب الدعوة للمسلمين كما يفعلون ذلك مع غير المسلمين؛ فإن القيام بهذه العمليات الإجرامية أشد حرمة وأكثر فسادًا، وفيه نقض للعهد المنصوص شرعا على المحافظة عليه. (ب) بل إنه لا يجوز حتى أثناء قيام الحرب الفعلية قتل النساء غير المقاتلات والأطفال والشيوخ العجزة والعسفاء -وهم الأجراء الذين يعملون في غير شؤون القتال-، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]، وقد نقل الإمام الطاهر بن عاشور في تفسيره عن ابن عباس وعمر بن عبد العزيز ومجاهد أن هذه الآية محكمة لم تنسخ، قال: "لأن المراد بالذين يقاتلونكم الذين هم متهيئون لقتالكم أي لا تقاتِلوا الشيوخ والنساء والصبيان" اهـ. وروى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا بعث أميرًا على جيش – أي في حالة حرب فعلية - أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله ومن معه من المسلمين خيرًا، فقال: « اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدا». وروى أحمد في مسنده عن المرقع بن صيفي عن جده رباح بن الربيع أخي حنظلة الكاتب أنه أخبره أنه خرج مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في غزوة غزاها وعلى مقدمته خالد بن الوليد فمر رباح وأصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على امرأة مقتولة مما أصابت المقدمة فوقفوا ينظرون إليها ويتعجبون من خلقها حتى لحقهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على راحلته فانفرجوا عنها، فوقف عليها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: «ما كانت هذه لتقاتل»، فقال لأحدهم: «الحق خالدًا، فقل له: لا تقتلون ذرية ولا عسيفًا». وقال الإمام النووي في شرح مسلم: «أجمع العلماء على تحريم قتل النساء والصبيان إذا لم يقاتلوا».
وحيث إن العلة في القتال هي المحاربة فإن كل من لا يقاتل فإنه يلحق بما ورد ذكره في النصوص الشرعية التي نهت عن التعرض لغير المقاتلين، وهؤلاء هم ما يسمون في المصطلح المعاصر بـ"المدنيين" فلا يجوز إذايتهم وإتلاف أموالهم فضلا عن قتلهم، فقتل المدنيين من الكبائر. (ج) ويضاف إلى ذلك أنه كما لا يجوز الغدر بغير المسلمين متى دخلوا بلاد الإسلام مستأمَنين، فكذلك الحال بالنسبة للمسلم إذا دخل بلاد غير المسلمين بتأشيرة دخول ونحوها فإنه يكون مستأمَنًا، ولا يجوز له حينئذ أن يقوم بأي انتهاك لحرماتهم أو تَعَدٍّ عليهم، ودماؤهم وأموالهم وأعراضهم عليه حرام ولو تعدَّى على شيء من ذلك كان غدرًا وخيانة منه على ما ذكر العلماء؛ لأنا ذكرنا أن تأشيرة الدخول لغير المسلمين إلى بلاد المسلمين عقدُ أمان، وكذلك هي بالنسبة لدخول المسلم إلى بلاد غير المسلمين، لأنهم لم يُعطُوه إياها إلا بشرط ترك خيانتهم وأمنهم على أنفسهم منه، وهذا إذا لم يكن مذكورًا في اللفظ فهو معلوم في المعنى كما يقول الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني"، وسيأتي نص كلامه، وعقد الأمان يقتضي الاستئمان لطرفي العقد وأن كلًّا منهما جعل الآخر منه في أمان، فليس للمسلم حينئذ خيانتهم ولا الغدر بهم. قال الإمام الشافعي -رضي الله عنه- في "الأم" (4/ 164– 165، 188): "فإن أمّنوه أو بعضُهم وأدخلوه في بلادهم بمعروف عندهم في أمانهم إياه، وهم قادرون عليه، فإنه يلزمه لهم أن يكونوا منه آمنين.. فأمانهم إياه أمانٌ لهم منه، فليس له أن يغتالهم ولا يخونهم.. إذا دخل قوم من المسلمين بلاد الحرب بأمان فالعدو منهم آمنون إلى أن يفارقوهم أو يبلغوا مدة أمانهم، وليس لهم ظلمهم ولا خيانتهم.. ولا نعرف شيئًا يُروَى خلاف هذا" اهـ. وقال الإمام محمد بن الحسن الشيباني في "السير الكبير مع شرح السرخسي" (٢/ 66- ٦٧، ط. دار الكتب العلمية): "ولو أن رهطًا من المسلمين أتوا أول مسالح أهل الحرب فقالوا: نحن رسل الخليفة، وأخرجوا كتابًا يشبه كتاب الخليفة أو لم يخرجوا، وكان ذلك خديعةً منهم للمشركين، فقالوا لهم: ادخلوا، فدخلوا دار الحرب، فليس يحل لهم قتلُ أحد من أهل الحرب ولا أخذُ شيء من أموالهم ما داموا في دارهم" اهـ. قال شارحه: "لأنه لا طريق لهم إلى الوقوف على ما في باطن الداخلين المسلمين حقيقةً، وإنما يُبنَى الحكمُ على ما يُظهرون؛ لوجوب التحرز عن الغدر، وهذا لِمَا بيّنا أن أمر الأمان شديد والقليل منه يكفي" اهـ. وقال الإمام ابن قدامة الحنبلي في "المغني" (١٢/ ٥٨٧، ط. دار الحديث): "مسألة: مَن دخل إلى أرض العدو بأمان لم يَخُنْهم في مالهم.. وأما خيانتهم فمحرمة؛ لأنهم إنما أعطوه الأمان مشروطًا بتركه خيانتَهم وأمنِه إياهم مِن نفسه، وإن لم يكن ذلك مذكورًا في اللفظ فهو معلوم في المعنى" اهـ. ومن هنا يتبين لنا أيضا مدى جسامة خطأ ما يفعله هؤلاء البغاة في بلاد غير المسلمين مِن عمليات انتحارية غادرة يفجؤون ويفجعون بها مَن استأمنوهم وأدخلوهم إلى بلادهم، وأن هذه العمليات لا تجوز مطلقًا، بل هي متنافية مع تعاليم الإسلام ونبله الذي ينهى عن الغدر والخيانة خاصة بمن أدخلونا مستأمَنين إلى بلادهم. (د) ومما يؤكد مخالفتها للنصوص الشرعية أنها قد تصيب المسلمين الموجودين في هذه البلاد بالأذى والقتل والضرر، فيأتي فيها كل ما تقدم ذكره من الأدلة التي تحرم دم المسلم إلا بحق. ثانيًا: مخالفتها للمقاصد الشرعية:
فلا يختلف الحال في البلاد غير المسلمة عن البلاد المسلمة من حيث إهدار هذه العمليات لمقاصد الشريعة، وبخاصة مقصد حفظ النفس ومقصد حفظ المال؛ لأنه إذا كانت العلاقة بين الدول الإسلامية وغيرها هي السلم والتعايش، وثبتت شرعا حرمة دماء غير المسلمين فيها في غير حالة الحرب، وثبتت حرمة دماء المدنيين في حالة الحرب، فإن ما يترتب على هذه العمليات من قتل وتدمير وتخريب فيه تضييع لمقصد حفظ النفس ومقصد حفظ المال بالصورة نفسها التي ذكرناها في حكم هذه العمليات في بلاد المسلمين. ثالثا: ما يلزم عنها من أضرار تلحق بالأمة الإسلامية
فإن من المفاسد العظيمة أن هذه الأفاعيل الخسيسة تؤكد لغير المسلمين الشائعات والاتهامات الباطلة التي يلصقها أعداء المسلمين بدين الإسلام من أنه دين همجي دموي غايته قهر الشعوب والفساد في الأرض، وهذا كله من الصد عن الله وعن دين الله. ومن المفاسد العظيمة أيضًا ما يترتب على ذلك من تعريض المسلمين الموجودين في بعض البلدان الأجنبية للاضطهاد والتنكيل من قِبل المتعصبين -وهم كثر-، فيتعرضون للإيذاء الشديد في أنفسهم وذويهم وأموالهم وأعراضهم، وقد يضطر بعضهم إلى الإسرار بدينه أو التخلي عن بعض الشعائر والفرائض. كل هذا بسبب أعمال حمقاء غير مسؤولة قام بها قلة من المغفلين أو المستغفلين ظانين أنهم بأفعالهم هذه يحققون مصالح إسلامية، وهم في الحقيقة يعملون لمصلحة الشيطان. وقد نص العلماء أنه لو تعارضت المصلحة مع المفسدة فإن دفع المفسدة مقدَّم على جلب المصلحة، وكلام علمائنا هذا في المصالح المحققة فكيف إذا كانت المصلحة متوهمة أو معدومة؟ أما ما يقوله هؤلاء المغرر بهم من أن هذه الأعمال من باب الجهاد والنكاية في العدو وقد يسميها بعضهم بالغزوات فهو محض جهل ومغالطة؛ فالجهاد المشروع في الإسلام هو ما كان تحت راية إسلامية واضحة، وبإذن الإمام، وإلا لآل الأمر للفوضى وإلى إراقة برك الدماء بغير حق بحجة الجهاد، والجهاد في الإسلام إنما هو لتحقيق غايتين اثنتين: الأولى: الدفاع عن المسلمين، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ولَا تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لَا يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ﴾ [البقرة: 190]. الثانية: الدفاع عن حرية الناس في الإيمان بالإسلام أو البقاء على ما هم عليه، وهذه هي (الفتنة) التي أُمرنا أن نقاتل حتّى نرفعها عن الناس، ليختاروا دينهم بحرية كاملة، قال تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: 193]. وما يقوله بعضهم من أن هذا من جهاد الطلب، فالجواب أن هذا النوع من الجهاد لم يقل به جمهور علماء المسلمين، ولم يوجبه إلا طائفة قالت به متأثرة بالحالة السياسية العامة في العالم حينئذ، وأدلة الجمهور أقوى من ادلتهم. وعلى التسليم بذلك النوع، فإن ما يقوم به هؤلاء من عمليات تدميرية ليس جهادا شرعيا، وإنما هو تعد وعدوان؛ لأن الجهاد كما سبق يجب أن يكون بإذن الإمام وتحت راية إسلامية واضحة. ومن هنا يعلم أن هذه العمليات لا تحل في بلاد المسلمين ولا في بلاد غير المسلمين على السواء.
أنا شاب مسلم وأعمل في هولندا في سوبر ماركت لشخص هو الآخر مسلم ولكن يباع في هذا المكان بعض من زجاجات الخمور ولحم الخنزير، وقد بحثت عن عمل آخر ولكن للأسف لم أجد في الوقت الحالي، فماذا أفعل الآن؟
إن السادة الحنفية يجيزون التعامل مع غير المسلمين في ديار غير المسلمين بالعقود الفاسدة إذا كان ذلك برضاهم وبطيب نفس منهم، كبيع الخمر والخنزير والربا وما شابه من معاملات فاسدة، وهذا ينطبق على حالة السائل حيث إن الأصل فيمن يشترون من المحل الذي يعمل به أنهم كفار، وقد صرح الحنفية في معتبرات المذهب – كما نص عليه العلامة الشيخ محمد بخيت المطيعي الحنفي -بأن المسلم المستأمن في غير دار الإسلام يحل له أن يأخذ مالهم برضاهم ولو بربا أو قمار ؛ لأن المحرم هو الغدر والخيانة، فما أخذه برضاهم وليس فيه غدر ولا خيانة يكون حلالا على أي وجه أخذه. ولما كان العقد على الخمر والخنزير عقدا فاسدا لفقدان الخمر والخنزير وسائر المحرمات التقوم، وحرمة مقابلتها بالمال، كان العقد عليها داخل بلاد الإسلام عقدا فاسدا لاغيا. أما في بلاد غير المسلمين فيجوز بيعها لغير المسلمين وأخذ مقابل مالي عليها مادام ذلك برضاهم وليس فيه غدر ولا خيانة. وقد استدل الحنفية على ذلك بأدلة كثيرة منها الحديث المرسل الذي رواه سيدنا مكحول عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: «لا ربا بين المسلمين وبين أهل الحرب في دار الحرب» ذكره الشافعي في الأم 7 / 359، والزيلعي في نصب الراية 4 / 44، وابن حجر في الدراية في تخريج أحاديث الهداية 2 / 158، وابن قدامة في المغني 4 / 47 ولكنه قال عنه: وخبرهم مرسل لا تعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك ا هـ. واستدلوا بأدلة منها ما وقع من مصارعة النبي -صلى الله عليه وسلم- لرُكانة حين كان بمكة، وكان ركانة كافرًا فصرعه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في كل مرة مقابل ثلث غنمه، وكانت مكة وقتها دار كفر، ولقد رد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم- الغنم بعد ذلك تفضلا منه وكرما. روى أصل هذه القصة أبو داود 4/ 55 والترمذي 4/ 247 وليس فيها ذكر الشياه، وذكرت قصة الشياه في مراسيل أبي داود 1/ 235 وغيره. وكذلك استدلوا بما روي عن ابن عباس وغيره أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال في خطبة الوداع: «كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب» ووجه الدلالة أن العباس أسلم في بدر بعد أسره، ورجع إلى مكة، وكان يرابي، ولا يخفى فعله عن النبي -صلى الله عليه وسلم- ولم ينهه عن ذلك، فدل على جوازه، وإنما الموضوع من الربا فقط الذي لم يكن قد قبض حتى جاء الفتح وصارت مكة دار إسلام. أخرجه ابن ماجه في السنن (4/ 260) باب حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك استدلوا بأن الصديق أبا بكر ناحب مشركي قريش (راهنهم) قبل الهجرة حين أنزل الله تعالى: [الروم 1- 2] فقالت له قريش: ترون أن الروم تغلب؟ قال: نعم، فقالوا: هل لك أن تخاطرنا (تراهننا – على شيء مسمى يستحقه الرابح)؟ فقال: نعم، فخاطرهم، فأخبر النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «اذهب إليهم فزد في الخطر» ففعل، وغلبت الروم فارسا فأخذ أبو بكر خطره (الشيء الذي جعلوه للرابح)، فأجازه النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا قمار حدث بينهم في مكة وكانت دار كفر وقتها. (يراجع المبسوط 14 / 57 وفتح القدير 6 / 178). ولهذه الأدلة وغيرها قال محمد بن الحسن: إذا دخل المسلم دار الحرب بأمان فلا بأس بأن يأخذ منهم أموالهم بطيب أنفسهم بأي وجه كان. (راجع شرح السير الكبير 4/ 141). وقال السرخسي: لا ربا بين المسلمين وأهل دار الحرب في دار الحرب وهو -أي حديث مكحول المرسل- دليل لأبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- في جواز بيع المسلم الدرهم بدرهمين من الحربي في دار الحرب...، وكذلك لو باعهم ميتة أو قامرهم وأخذ منهم مالًا بالقمار، فذلك المال طيب له عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى. (راجع المبسوط 14/ 56). وقول الإمامين أبي حنيفة ومحمد هو المعتمد عند السادة الحنفية. ولقد سمى الفقهاء دار غير المسلمين بدار الحرب للتقسيم الذي كان شائعا في زمان الأئمة الذين ننقل عنهم هنا هذا الحكم؛ حيث كان العالم كله يحارب المسلمين، فقسم الفقهاء البلاد إلى دار إسلام يقام فيها الإسلام وتظهر شعائره وإلى دار حرب لا يقام فيها أحكام المسلمين، فهو تقسيم بحكم الواقع، لا بحكم الشرع؛ حيث إن الإسلام بعد أن ظهر وانتشر أخذ الملوك في أقصى الأرض وأدناها يتأهبون للاعتداء على المسلمين، وأخذوا يقاتلون المسلمين أينما كانوا. فلما اختلف الموضوع بتطور العلاقات وقيام المعاهدات صار التقسيم الحديث بين علماء الإسلام بعدما انتهت حالة الحرب التي شنت على المسلمين هو بلاد المسلمين وبلاد غير المسلمين، ولها نفس أحكام دار الحرب إلا فيما يتعلق بنفس الحرب التي لم تعد قائمة -والحمد لله رب العالمين- فليتنبه إلى ذلك؛ لأننا ننقل هنا من الكتب القديمة لبيان مذهب الأحناف فنحافظ على ألفاظهم، ومما ينبغي أن يتنبه إليه أيضا في هذا المقام أن مراد السادة الحنفية بدار الحرب هنا هو دار غير المسلمين مطلقا، سواء أكانت الحرب قائمة أم لا، بدليل أن غالب الأدلة التي استدلوا بها كانت لدار كفر لا حرب فيها، وهي مكة قبل الهجرة ، وصورة الدليل قطعية الدخول في الحكم إجماعا. ولما كان العقد على الخمر والخنزير عقدا فاسدا لفقدان الخمر والخنزير وسائر المحرمات التقوم، وحرمة مقابلتها بالمال، كان العقد عليها داخل بلاد الإسلام عقدا فاسدا لاغيا، وأما خارج بلاد الإسلام مع غير المسلمين فإنه يقع جائزا عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى -بخلاف أبي يوسف- لأنهما يرون جواز التعامل بالعقود الفاسدة في دار غير المسلمين بين المسلم وأهل البلد من غير المسلمين. وهذا الرأي وإن كان يخالف بقية المذاهب التي ترى حرمة هذه التعاملات في دار الحرب أو في دار الإسلام، فإن السائل له أن يأخذ برأي أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى، خاصة وهو ينتظر الحصول على عمل آخر ليس فيه حرمة باتفاق، والقواعد الشرعية تجوز له ذلك؛ لأن الفقهاء يقولون إن للمكلف تقليد من أجاز شيئًا وقع فيه خلاف إذا كان العمل برأي المانع والمحرم سيسبب ضيقا ومشقة عليه، فيقولون: من ابتلي بشيء من ذلك -أي مما وقع فيه الخلاف بين الحل والحرمة- فليقلد من أجاز. وأما من أراد أن يتورع ويحتاط بالخروج من الخلاف بالعمل بما عليه الجمهور فأحسن، والورع واسع ولا حد له؛ لكن عليه أن لا ينكر على غيره في الأحكام المختلف فيها بين الأئمة.
والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم.
(14)كيفية الصيام في البلاد التي يطول فيها النهار عن المعتاد
أريد معرفة كيفية الصيام في السويد؛ حيث إن عدد ساعات الصيام في رمضان هذا العام يزيد عن 18 ساعة في اليوم، وغروب الشمس بعد الساعة التاسعة مساءًا، فهل نفطر والشمس مشرقة؟
البلاد التي اختل فيها الاعتدالُ حتى أصبح متعذرًا على المسلم الصيام فيها: فإنها ترجع إلى التقدير باعتماد عدد ساعات الصوم في مكة المكرمة، فيصومون عدد الساعات التي يصومها المسلمون في مكة، دون نظر أو اعتداد بمقدار ساعات الليل أو النهار عندهم، ودون توقف في الفطر على غروب الشمس أو اختفاء ضوئها بدخول الليل فعلًا، فيتركون العلامات التي جعلها الله سببًا للأحكام الشرعية في الصلاة والصيام؛ من فجر وشروق وزوال وغروب وذهاب شفق ونحوها؛ وذلك لأمرين: أولا: الاعتماد على العلامات يكون في الظروف العادية عند انضباطها أن الاعتماد على العلامات (فجر، شروق، زوال، غروب..إلخ) التي جعلها الله تعالى أسبابا للأحكام الشرعية إنما يكون في الظروف العادية التي تنضبط فيها هذه العلامات، وحال هذه البلاد خارج عن الأحوال المعتادة في دول العالم، وقد جرت سنة الله تعالى في التكاليف أن ترد على غالب الأحوال، دون أن تتعرض صراحة لبيان حكم ما يخرج على هذا الغالب، وعلى هذا جاء التكليف بالصلاة والصيام وربطهما بالمواقيت المعتادة المرتبطة بالليل والنهار. وقد نص الأصوليون والفقهاء على أن مقصود الشارع من عمومات النصوص أصالةً هي الأحوال المعتادة المألوفة الغالبة بين الناس في معاشهم. يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (2/ 62، ط. دار المعرفة): "الكلام إنما هو جار على الغالب المعتاد، وأما الصورة النادرة فليست مقصودة" اهـ بتصرف. وقال ابن الشاط المالكي في حاشيته عليه "إدرار الشروق على أنواء الفروق" (4/ 460): "والأحكام الشرعية واردة على الغالب لا على النادر" اهـ.
وقال العلامة عبد الحميد الشرواني في حاشيته على "تحفة المحتاج" لابن حجر (4/ 273، ط. المكتبة التجارية الكبرى): "ألفاظ الشارع إذا وردت منه تُحمَل على الغالب فيه، والأمور النادرة لا تُحمَل عليها" اهـ. وقال العلامة ابن عابدين الحنفي في "رد المحتار على الدر المختار" (2/ 123، ط. دار الفكر) معلقا على قصر اليوم في بعض البلاد إلى ما يقارب الساعة: "القصر الفاحش غير معتبر كالطول الفاحش، والعبارات (عبارات الأئمة ومثلها نصوص الشرع) حيث أُطلِقَتْ تُحمَل على الشائع الغالب دون الخفي النادر" اهـ. ومن هنا كان المعتمد عند كثير من الأصوليين أن الصورة النادرة الشاذة غير داخلة في العموم؛ وفي ذلك يقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: "الشاذُّ يُنْتَحَى بالنص (أي من شأنه أن يُنَصَّ عليه بخصوصه)، ولا يراد على الخصوص بالصيغة العامة" اهـ نقلًا عن إمام الحرمين في "البرهان في أصول الفقه". (1/ 520-521، ط. كلية الشريعة بقطر). ومن قال من الأصوليين بدخول الصورة النادرة في العموم فهو لا يخالف في تخصيصها إذا دل الدليل على ذلك؛ فيصير الخلاف: هل هو عامٌّ مخصوص، أو عامٌّ أُريد به الخصوص؟ وهو خلاف لفظي لا ثمرة له بعد اتفاقهم على عدم شمول العامِّ لها في المآل. وفي تطبيق هذه القاعدة على مسألة مواقيت الصلاة والصيام في البلاد التي اختلت فيها المواقيت يقول الشيخ الإمام محمد عبده مفتي الديار المصرية الأسبق -رحمه الله- فيما نقله عنه تلميذه الشيخ محمد رشيد رضا في "تفسير المنار" (2/ 163، ط. مطبعة المنار): "فمُنزِلُ القرآن -وهو علّام الغيوب وخالق الأرض والأفلاك- خاطب الناس كافة بما يمكن أن يمتثلوه؛ فأطلق الأمر بالصلاة، والرسول -صلى الله عليه وآله وسلم- بين أوقاتها بما يناسب حال البلاد المعتدلة؛ التي هي القسم الأعظم من الأرض، حتى إذا ما وصل الإسلام إلى أهل البلاد التي يطول فيها النهار والليل عن المعتاد في البلاد المعتدلة، يمكن لهم أن يقدروا للصلوات باجتهادهم وبالقياس على ما بينه النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكذلك الصيام؛ ما أوجب رمضان إلا على من شهد الشهر؛ أي: حضره، والذين ليس لهم شهر مثله يسهل عليهم أن يقدروا له قدره. وقد ذكر الفقهاء "مسألة التقدير" بعد ما عرفوا بعض البلاد التي يطول ليلها ويقصر نهارها، والبلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها، واختلفوا في التقدير على أي البلاد يكون؟ فقيل: على البلاد المعتدلة التي وقع فيها التشريع؛ كمكة والمدينة، وقيل: على أقرب بلاد معتدلة إليهم، وكل منهم جائز، فإنه اجتهادي لا نص فيه"اهـ. ويقول الشيخ الإمام محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق -رحمه الله- في "الفتاوى" (ص: 125، ط. دار الشروق): "ولا ريب أن بيان أوقات الصلاة في اليوم والليلة وبيان الشهر في السنة –على هذا الوجه الذي عُرِفَ وتناقله الناس جيلا بعد جيل- إنما كان بما يناسب حال البلاد المعتدلة التي تتجلى أوقاتها المحددة في اليوم والليلة، ويتجلى رمضانها في السنة، وهي القسم الأعظم من الكرة الأرضية، ولم يكن معروفًا للناس في وقت التشريع أن في الكرة الأرضية جهات تكون السنة فيها يومًا وليلة (حالة اختفاء المواقيت)؛ نصفها نهار ونصفها ليل، وجهات أخرى يطول نهارها حتى لا يكون ليلها إلا جزءًا يسيرًا، ويطول ليلها حتى لا يكون نهارها إلا جزءًا يسيرًا (حالة اختلال المواقيت)" اهـ. ويقرر الشيخ الإمام جاد الحق علي جاد الحق أن تشريع بدء الصوم من الفجر إلى المغرب: "إنما يجري على الغالب؛ أي: في البلاد المعتدلة، وليس في الأحوال النادرة أو المحصورة في جهات القطبين وما قَرُبَ منها كما ظهر بعد عصر التشريع" اهـ. ثانيا: وجود مستند شرعي للانتقال إلى التقدير في الظروف الاستثنائية
الانتقال من الاعتماد على العلامات إلى الأخذ بالتقدير في هذه الحالات المخصوصة له مستند شرعي: وهو الحديث الوارد في خبر الدَّجّال، وقد رواه الإمام مسلم في صحيحه وغيرُه من حديث النواس بن سمعان -رضي الله عنه- حين قص النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- عليهم من خبر الدجّال، قلنا: يا رسولَ اللهِ وما لبْثُه في الأرض؟ قال: «أَرْبَعُونَ يَوْمًا؛ يَوْمٌ كَسَنَةٍ، وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ، وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ، وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ»، قلنا: يا رسولَ اللهِ فذلك اليومُ الذي كَسَنَةٍ أتَكْفينا فيه صلاةُ يوم؟ قال: «لاَ؛ اقْدُرُوا لَهُ قَدْرَهُ». وحالة أيام الدجّال هي حالة اختفاءٍ للمواقيت، وهي متحققة في مناطق القطبين التي يستمر الليل فيها ستة أشهر والنهار ستة أشهر، وقد ألحق العلماء بها حالة اختلال المواقيت في المناطق المقاربة للقطبين أيضًا والتي يطول فيها النهار ويقصر فيها الليل؛ لتحقق العلة في كلٍّ، وهي عدم انضباط الأسباب المعتادة التي أناط بها الشرع العبادة؛ فكما أنه حاصل في اختفاء العلامات فإنه حاصل أيضا في اختلال العلامات واضطرابها. وقياس هذا الاختلال مأخوذ من الواقع: وهو ثماني عشرة ساعة فما يزيد، وهو نصف اليوم ونصف نصفه؛ حيث يصعب على الإنسان صيام ثماني عشرة ساعة متواصلة ويزيد، وذلك بقول المختصين الذين يقررون أن الامتناع عن الطعام والشراب طوال هذه المدة يضر بالجسد البشري قطعًا؛ وذلك على المعهود من أحوال البشر وتَحَمُّلِ أبدانهم، وما كان ذلك فلا يصح أن يكون مقصودًا بالتكليف شرعًا. وفي قياس حالة اختلال المواقيت على اختفائها يقول الشيخ العلّامة مصطفى الزرقا في كتابه "العقل والفقه في فهم الحديث النبوي" (ص: 124): "فإذا قيل: كيف تسمح لأناس في رمضان أن يفطروا والشمس طالعة وإن كانت لا تغيب إلا نصف ساعة أو ساعة؟ قلنا: هذا سيلزمكم في البلاد التي ليلُها ستة أشهر ونهارها ستة أشهر؛ فإنكم وافقتم على أنهم يفطرون في نهارهم الممتد في الوقت الذي حددتموه لهم رغم أن الشمس طالعة. فهذا لا يضر؛ بسبب الضرورة. والمهم في الموضوع: رعاية مقاصد الشريعة في توزيع الصلوات، وفي مدة الصوم بصورة لا يكون فيها تكليف ما لا يطاق، ويتحقق فيها المقصود الشرعي دون انتقاص" اهـ. ولا يصح أن يقال إن هذه البلاد تعامل كبقية البلاد فيصوم المسلم النهار ويفطر بالليل، ولو كان الليل أو النهار نصف ساعة، ثم من عجز بنفسه عن الصيام فله أن يُفطِر، وعليه القضاء في أيام أخر يتمكن فيها من الصيام، حكمه في ذلك حكمُ غيره. وسبب عدم صحة هذا الفرض أن شرع الصوم عامٌّ لم يُخَصَّصْ ببلد ولا بنوع من الناس، فإن اختلفت المواقيت في بلد بحيث يتعسر أداء الصوم أو يشق، لم يسقط عنهم الصوم بالكلية؛ لكيلا تضيع العبادة، وكذلك لم يفرض عليهم اعتبار مواقيتهم في الصوم؛ لأنه يعود عليهم بالضرر البالغ إن زاد عدد ساعات النهار عن المعتاد، أو يؤدي إلى صورية العبادة إن قلت ساعات النهار عن المعتاد كما تصل في بعض البلاد إلى أقل من الساعة، فكان الأولى لهم الذي يحافظ على فريضة الصوم من جهة ولا يوقعهم في المشقة والحرج من جهة التقدير بأعدل البلاد؛ وهي مكة. كما أن إلزام المسلمين باتباع العلامات في هذه البلاد وبخاصة في حالة تجاوز وقت النهار الساعات المعتادة، فيه مشقة بالغة لا تحتمل، وقد قرر العلماء أن ما عُلِم من الواقع ونفس الأمر أن تَحَمُّلَه ليس من شأن الجسد البشري أصلًا وقرر المختصون تَمَحُّضَ ضرره على المكلَّف في حالته المعتادة فإن المجتهد يجزم بعدم قصد الشارع له أصلًا، ولا يُقال هنا: من عجز أفطر وقضى؛ لأن هذا إما أن يؤدي إلى سقوط تكليف الصوم بالكُلِّيَّة أو الإضرار بالمكلَّف وإيقاعه في الحرج بتعطيل أعماله ومصالحه، واضطراب معايشه وشؤون حياته إن كانت سائر السنة كذلك، أو نقل عبادة الصوم إلى شهر آخر أقرب إلى الاعتدال إن كان في السنة أوقات يزول فيها هذا الاختلال، وكل ذلك خارج عن حكمة شريعة الصوم. ولذلك فإن الإمام محمود شلتوت -رحمه الله تعالى- جعل ذلك فرضًا واجبَ الاستبعاد؛ فقال في "الفتاوى" (ص: 126) : "ولا ريب أن الجرْي في هذه الجهات على بيان الأوقات التي عُرفت للصلاة والصوم يُؤدي إلى أن يُصلي المسلم في يومه وليلته -وهو "سنة كاملة"- خمسَ صلوات فقط مُوزعة على خمسة أوقات من السنة كلها، ويُؤدي كذلك في بعض الجهات إلى أن تكون الصلوات المفروضة أربعًا أو أقل، على حسب طول النهار وقِصَرِه، وكذلك يُؤدِّي إلى أن يُكلَّف المسلم في تلك الجهات صومَ رمضان ولا رمضانَ عنده، وفي بعضها يُؤدي إلى صوم ثلاث وعشرين ساعة من أربع وعشرين ساعة، وكلُّ هذا تكليف تَأْبَاهُ الحِكمة من أحكم الحاكمين والرحمة من أرحم الرحماء. وإذنْ يجب استبعاد هذا الفرض" اهـ. ويقول العلامة مصطفى الزرقا في كتابه "العقل والفقه في فهم الحديث النبوي" (ص: 124): "وهذا التعميم بمجرد ظهورِ تَمَيُّزٍ بين ليلٍ ونهارٍ دون نظر إلى الفارق العظيم في مدة كلٍّ منها -يتنافى كل التنافي مع مقاصد الشريعة وقاعدة رفع الحرج. وليس من المعقول توزيع صلوات النهار أو الليل على مدة نصف ساعة مثلًا، ولا من المعقول صيام ساعة وإفطار ثلاث وعشرين" اهـ بتصرف يسير. والمُقتَرَحُ لأهل تلك البلاد: أن يسير تقدير الصوم عندهم على مواقيت مكة المكرمة؛ حيث إن الله قد عدها أمَّ القرى، والأم هي الأصل، وهي مقصودة دائمًا؛ ليس في القبلة فقط، بل في تقدير المواقيت إذا اختلت. أما التقدير بأقرب البلاد فهو تقدير مضطرب جدًّا، والقائلون به يشترطون سهولة معرفة الحساب الدقيق لأقرب البلدان اعتدالًا من غير مشقة أو اضطراب في ذلك، وذلك كلُّه مُنْتَفٍ بالتجربة والممارسة، بل إنه يُدخِلُ المسلمَ في حَيْرَةٍ أشدَّ مِن حَيْرَتِه الأولى؛ وهذا ما دعا فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الأسبق الشيخ جاد الحق إلى الميل إلى استبعاده بعد أن ذكره خيارًا ثانيًا؛ داعيًا أهل البلاد التي يطول فيها النهار إلى العمل بمواقيت مكة المكرمة أو المدينة المنورة، فقال -رحمه الله تعالى-: "وقد يتعذر معرفة الحساب الدقيق لأقرب البلاد اعتدالًا إلى النرويج، ومِن ثَمَّ أميلُ إلى دعوة المسلمين المقيمين في هذه البلاد إلى صوم عدد الساعات التي يصومها المسلمون في مكة أو المدينة، على أن يبدأ الصوم من طلوع الفجر الصادق حسب موقعهم على الأرض، دون نظر أو اعتداد بمقدار ساعات الليل أو النهار، ودون توقف في الفطر على غروب الشمس أو اختفاء ضوئها بدخول الليل فعلًا؛ وذلك اتباعًا لما أخذ به الفقهاء في تقدير وقت الصلاة والصوم، استنباطًا من حديث الدجال سالف الذكر، وامتثالًا لأوامر الله وإرشاده في القرآن الكريم رحمة بعباده" اهـ. والذين أجازوا التقدير بمواقيت مكة المكرمة - في صوم أهل البلاد التي يطول نهارها ويقصر ليلها عن المعتاد - جماعة من كبار أهل العلم في العصر الحديث إلى يومنا هذا؛ بدءًا مِن أول مَن تولَّى منصب "مفتي الديار المصرية" فضيلة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده -رحمه الله- وقد قدَّم هذا الرأي في الذكر على غيره وجعله من أقوال الفقهاء في المسألة كما سبق نقلُه عنه، وهذا هو الذي سارت عليه دار الإفتاء المصرية فيما بعدُ؛ بدءًا من فضيلة الشيخ الإمام جاد الحق علي جاد الحق [فتوى رقم 214 لسنة 1981م]، ومرورًا بفضيلة الشيخ عبد اللطيف حمزة [فتوى رقم 160 لسنة 1984م]، وفضيلة الشيخ الإمام الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي [فتوى رقم 171 لسنة 1993م، ورقم 579 لسنة 1995م]، وفضيلة الأستاذ الدكتور الشيخ نصر فريد واصل [فتوى رقم 438 لسنة 1998م]، وانتهاءً بفضيلة مفتي الديار المصرية الحالي الأستاذ الدكتور علي جمعة حفظه الله؛ حيث نصُّوا جميعًا على ذلك في فتاواهم المذكورة. وهو رأي فضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور محمد الأحمدي أبو النور وزير الأوقاف الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية عن لجنة الفتوى بالأزهر الصادر بتاريخ 24/ 4/ 1983م، وفضيلة الشيخ العلّامة مصطفى الزرقا، والدكتور محمد حميد الله في كتابه "الإسلام"، وفضيلة الشيخ محمود عاشور وكيل الأزهر الأسبق وعضو مجمع البحوث الإسلامية، وغيرهم من أهل العلم المعاصرين، وهو ما عليه الفتوى لدى جماعة من هيئات الإفتاء الشرعي في العالم؛ كدائرة الإفتاء في عَمّان بالمملكة الأردنية الهاشمية بتوقيع المفتي العامّ فضيلة الشيخ محمد عبده هاشم بتاريخ 19/ 9/ 1399ه، وهذا هو الذي نراه أوفق لمقاصد الشرع الكلية، وأرفق بمصالح الخلق المرعية.
(15)استخدام ضمائر التذكير في حق الله تعالى
ما حكم استخدام الضمائر (He) و(His) في اللغة الانجليزية بمعنى "هو" وضمير الملكية في حق الله تعالى؟
أسماء الله الحسنى وصفاته العلا لا تُعرَف إلَّا من جهة التوقيف؛ قال في شرح المحلي على جمع الجوامع: «(و) الأصح (أن أسماء الله تعالى توقيفية) أي لا يطلق عليه اسم إلا بتوقيف من الشرع» (2/ 496، ط. دار الفكر).
يقول الشيخ البيجوري في بيان معنى التوقيفية: «أي: يتوقف جواز إطلاقها عليه سبحانه على ورودها في كتاب أو سنة صحيحة أو حسنة أو إجماع» (شرح البيجوري على الجوهرة ص 155، ط. دار السلام).
وفي معنى الأسماء: الضمائر من حيث جواز إطلاقها من عدمه على الله تعالى، وقد وصف تعالى نفسه في كتابه العزيز بالضمير "هو"، فقال تعالى: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 163]، وقال: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ [آل عمران: 18]. وهذا لا يعني أن الله وصف نفسه بالذكورة حاشا لله، بل يعني أن هذا الضمير له استخدامان: استخدام في الكلام عن الرجال، واستخدام آخر في الكلام عن الله جل وعلا، ولذلك فنحن نستخدم هذا الضمير في الكلام عن الله كما استخدمه سبحانه وتعالى، و لـمَّا لم يستخدم الضمير "هي" في حقه سبحانه لم نستخدمه نحن وقوفًا عند النص القرآني؛ لأن ذلك مما لا يدخل فيه قياس، فلا يقاس الله تعالى بخلقه، ولا يوصف بذكورة ولا أنوثة؛ لأنه هو خالق الذكورة والأنوثة، وهذا هو سر اقتصارنا على وصف سبحانه بـ"هو" دون "هي".
(16)سكنى الرجل والمرأة الأجنبيين في مسكن واحد
هل يجوز للرجل والمرأة في الإسلام أن يعيشا في سكن واحد بدون زواج قائم بينهما؟
جاء الإسلام بتشريع فريد، يهدف إلى حفظ الكيان الإنساني في المجتمعات، وحفظ علاقة الإنسان بالله تعالى خالق الأرض والسماوات، ومن ثم فإن التشريعات الإسلامية تصب في مقاصد ضرورية، لا تستقيم الحياة بدونها، وهي حفظ النفوس والأعراض والأموال والأنساب والدين، ولذا قيام أي علاقة غير شرعية بين الرجل والمرأة الأجنبية عنه، وجعل العلاقة الشرعية الوحيدة بينهما الزواج كامل الأركان الذي يحفظ للمرأة حقوقها ويضمن انتساب الأطفال لآبائهم، ومن أجل ذلك حرم الإسلام كل الأمور التي يمكن أن تكون طريقا للوقوع في الزنا، فحرم الإسلام الخلوة بين الرجل والمرأة الأجنبيين، ونهى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-عن هذه الخلوة ما لم يكن مع المرأة ذو محرم، فقال: «لَا يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلّا وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ» متفق عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ونهى الإسلام صراحة أن يبيت الرجل مع المرأة الأجنبية عنه، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «ألا لا يبتن رجل عند امرأة ثيب إلا أن يكون ناكحاً أو ذا محرم». والمراد بالثيب هنا المتزوجة، قال العلماء: إنما خص الثيب بالذكر في الحديث لكونها يرد الناس على بيت زوجها غالبا من الجيران والأصحاب والأقارب، بخلاف البكر فإنها مصونة محفوظة في العادة مجانبة للرجال أشد مجانبة كما كان عليه الحال في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يحتج إلى ذكرها ولا من التحذير من بيات الأجنبي عندها، كما أنه من باب التنبيه؛ لأنه إذا ورد النهي عن الثيب التي يتساهل الناس في الدخول عليها في العادة، فالبكر أولى.
والغاية من اشتراط وجود المحرم عند تواجد الرجل مع المرأة الأجنبية عنه سد طريق الوقوع في المعصية على الرجل والمرأة، فإن وجود المحرم يقطع الخلوة وتبعاتها غالبا، ومن ثم لو كان معهما شخص لا يُستحى منه لصغره كطفل صغير ونحو ذلك فإن وجوده يكون كالعدم، وتبقى الحرمة قائمة، وكذا لو اجتمع رجال بامرأة أجنبية فهو حرام.
أما إذا كان بين الرجل والمرأة محرمية على التأبيد أي أنه لا يحل له الزواج منها أبدًا كأمه أو أخته أو بنته فإن انفرادهما لا يعد خلوة محرمة.
وعليه فإذا كان السكن يغلق على الرجل والمرأة الأجنبيين بحيث لا يمكن لغيرهما الدخول عليهما فإن له حكم الخلوة المحرمة، ولا يجوز لهما حينئذٍ أن يعيشا مُنْفَرِدَيْنِ مع بعضهما فيه.