لا يزال وباء كورونا ( covid 19 ) يضرب من جديد؛ حيث يطل على العالم في موجته الثانية بصورة أسرع انتشارًا و أشد شراسة بعد هدنة قصيرة، وعلى الرغم من الأخبار المتواترة التي تزف البشرى بقرب الحصول على اللقاح الناجع وتوافره -قريبًا بإذن الله- مما يمهد لقرب القضاء على هذه الجائحة و انتهائها، إلا أنه بات من المؤكد أن هذا اللقاح لن يصل إلى معظم أنحاء العالم إلا بعد انتهاء الموجة الثانية، مما يعني وجوب تحلي الجميع – أفرادًا وحكومات- باليقظة المستمرة والمحافظة والتشديد على التدابير الاحترازية والوقائية تقليلًا للخسائر البشرية والاقتصادية حتى يرفع الله هذا الوباء والبلاء بفضله وكرمه.
وقد أصدرت دار الإفتاء المصرية كتابها "فتاوى النوازل" والذي يعالج كافة القضايا والمسائل الشرعية والفقهية ذات الصلة بهذا الوباء؛ انطلاقًا من القيام بمهمتها ودورها في تبليغ وتبيين أحكام الله تبارك وتعالى فيما يستجد من مسائل ونوازل.
عن " فتاوى النوازل":
أول ما ظهرت الجائحة وبدا سرعة انتشارها في أنحاء المعمورة وتأثيرها الشديد على حياة الناس وواقعهم المعيش بادرت دار الإفتاء بتكوين مجموعة من خيرة علمائها تحت إشراف فضيلة المفتي وتوظيف كافة إمكانياتها العلمية الشرعية والتخصصية للتعامل مع هذه النازلة والتأصيل لمواجهة هذه النازلة.
وبرز جليًا في هذا المضمار دَور الفتوى الإسلامية وفي طليعتها دار الإفتاء المصرية في مواجهة هذا الوباء المستشري والهجمة المَرَضية، فلم تأل الدار جهدًا في إصدار عشرات الفتاوى الفقهية توصيفًا لأداء العبادات على الوجه الذي يقي من خطر استشراء هذا البلاء والوباء، وتفصيلًا لكيفية التعامل مع مرضاه، متناولة جُل الجوانب التي يمكن أن تتأثر بهذا الوباء، بدءً من الموقف العقدي إلى الجانب الروحي إلى الأداء الشعائري إلى التناول الفقهي إلى السلوك الأخلاقي إلى غير ذلك.
وهذا الذي ذكرناه إن دل على شيء فهو يدل على أمرين:
تلك المرونة والسعة التي يتميز بها الإسلام؛ بحيث أن تشريعاته وأحكامه صالحة لتطبيقها في كل زمان ومكان وفي كل الظروف المعيشية وتحت كل الأحوال البيئية فهو كلمة الله الأخيرة إلى العالمين.
قدرة المؤسسات الإفتائية وعلى رأسها دار الإفتاء المصرية بما تمثله من عراقة وريادة في مواكبة المستجدات والمتغيرات والتعاطي والتفاعل السريع معها؛ مما يعد في الحقيقة تجسيد واقعي وتطبيق عملي لعملية التجديد الفقهي والشرعي.
تقديم الكتاب:
يتكون الكتاب من خمسة محاور رئيسية:
المحور الأول: وهو بمثابة توطئة وتمهيد لمسائل وقضايا الكتاب؛ حيث كان التأصيل لفقه الطوارئ، من حيث توضيح مفهومه وبيان منهج استخراج الحكم الشرعي في قضايا الطوارئ، وتلك المصادرة الشرعية والقواعد الفقهية التي تنظم حالات الطوارئ ومنهج وسمات أحكام الطوارئ.
وقبل الولوج في الحديث عن المسائل خصص الكتاب مساحة للتعريف بهذا الوباء من وجهة نظر طبية متخصصة، مبينًا منهج تعامل الشرع الشريف مع العدوى والأوبئة والأخلاقيات التي ينبغي التحلي بها وقت النوازل والأزمات.
المحور الثاني: واستعرض فيه الكتاب تلك التدابير والاحترازات الوقائية من الناحية الشرعية، فتناول:
حكم التداوي من الوباء.
عدم المصافحة تجنبًا لعدوى كورونا.
من لازم بيته وقت الوباء فله أجر شهيد.
دفن المتوفى بفيروس كورونا في تابوت
حكم الحجر الصحي.
المحور الثالث: وكان الحديث فيه عن الآثار الفقهية لكورونا من الطهارة والصلاة والصيام والزكاة والجنائز والحج والعمرة والذكر والدعاء، وأهم ما فيه:
استخدام الكحول في المسجد وبعد الوضوء
حكم صلاة العيد في البيت بسبب الوباء
سقوط الجمع والجماعات بسبب كورونا
كيفية تكفين المتوفى بكورونا
حكم إفطار المصابين بعدوى كورونا في رمضان
حكم إرجاء العمرة خوفًا من انتشار كورونا
قصر الحج على الموجودين في السعودية دون خارجها بسبب الوباء
حكم الدعاء للمصابين بفيروس كورورنا من غير المسلمين.
حكم الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم لرفع الوباء.
المحور الرابع: تناول الحديث عن المحاذير الشرعية التي قد يفعلها بعض الناس كتعمد مريض كورونا حضور الجماعات ومخالطة الناس، وتخفيه تهربًا من الحجر الصحي، والامتناع عن دفن موتى كورونا.
المحور الخامس والأخير: عن جملة من الضوابط المجتمعية المتعلقة بالتعايش مع وباء كورونا، كحكم لبس الكمامة الطبية للوقاية من كورونا، وحكم توقيع الغرامة على من لا يلبس الكمامة، ومنع من لم يرتد الكمامة من المسجد، ونشر الوصفات الطبية من من غير المتخصصين، وحكم تزوير الشهادات الطبية لبيع بلازما المتعافين.
نماذج من مسائل وقضايا الكتاب:
مفهوم الطوارئ أو النوازل ومنهج التعامل معها:
الطوارئ ويطلق عليها الواقعات أو النوازل: يقصد بها عند الفقهاء الأمر غير المتوقع الذي يحدث على غير مثال سابق؛ فيهرع الناس إلى الفقهاء لاستجلاء آرائهم والاستهداء بأقوالهم.
خصائص وسمات أحكام الطوارئ:
تغير بعض الأحكام وتبدلها؛ فما كان واجبًا قد يتغير ويصير حرامًا أو مباحًا أو العكس على حسب الأحوال والظروف.
رفع العقوبة الدنيوية والإثم الأخروي عن المبتَلَى بها؛ نظرًا للحرج والمشقة التي يقع فيها المكلف في حالات الطوارئ.
تحصيل الثواب بالصبر على تلك الابتلاءات التي تصيب المسلمين من الأوبئة والأمراض وهذا من خصائص الأمة المحمدية.
زوال أحكامها بزوال الطوارئ ولا يجوز الزيادة على مقدارها؛ فالضرورة تقدر بقدرها، وما جاز لعذر بطل بزواله.
منع وقوع الخلاف في قضايا الطوارئ، لأن الخلاف على الرغم من كونه سعة ورحمة إلا أنه في هذا الباب قد يؤدي إلى بلبلة وشر واضطراب.
من مصادر الإفتاء التي يمكن الاعتماد عليها في مسائل الطوارئ:
المذاهب الفقهية التي تعرضت لهذه المسائل.
تفعيل القواعد والمذاهب الفقهية بالتخريج عليها.
الأدلة الشرعية المعتبرة من الكتاب والسنة أو القياس أو المصالح المرسلة وغير ذلك.
أخلاقيات وسلوكيات التعامل مع الأزمات:
الاعتقاد بأن الله وحده قادر على رفع البلاء من غير حول منا ولا قوة.
وجوب الأخذ بجميع أسباب الوقاية وأساليب النجاة امتثالًا لما أمر به الشرع الشريف من اجتناب مواطن التهلكة وحفظ النفس من الضرر.
الإكثار من فعل الخيرات كالتصدق والإنفاق في سبيل الله.
الحرص على تقوى الله وتجنب معصيته ولزوم التوبة والاستغفار والدعاء.
حسن الظن بالله واليقين أن رحمة الله وسعت كل شيء.
التعاون والتكاتف والمشاركة فيما يعود بالنفع على الآخرين.
الكف عن تناقل الأخبار السيئة وترويع الناس لما في ذلك من زيادة مشاعر الخوف والشتات حال الحاجة إلى الطمـأنينة والسكينة.
الاعتراف بالفضل والجميل لكل من بذل جهدًا لتخفيف حدة العناء أو وطأة البلاء، وعلى رأس هؤلاء الأطباء وهيئة التمريض وغيرهم ممن يتفاني في عمله وقد يدفع حياته ثمنًا لهذا.
وجوب الالتزام بتعليمات الجهات المختصة وحث الآخرين على الالتزام
بها وعدم التهاون في أي منها.
حكم الإلزام بالكمامة وفرض غرامة على ذلك:
ترى دار الإفتاء أنه إذا كان الإنسان مخيرًا في تصرفاته وأفعاله فإن هذا التخيير مقيد بالحد الذي لا يضر فيه غيره، فتغطية الأنف والفم من الأمور التي تدخل في الأصل تحت حكم الإباحة، فللإنسان أن يغطي فمه أو أنفه أو لا يفعل ذلك، لكن لما كان هذا التصرف محتاجًا إليه لمصلحة نفسه حتى لا تطاله العدوى، ولمصلحة غيره حتى لا تصل العدوى إلى غيره، فتتم بذلك وقاية المجتمع من الوباء وحماية الناس من البلاء صار واجبًا على المواطنين فعله والالتزام به في مواطن التجمعات وإن كان في الأصل تصرفًا مباحًا يتساوى فيه جانبا الفعل والترك؛ حيث قد جاء الشرع الشريف برعاية المصالح وتحصيلها ودرء المفاسد وتقليلها، وجعل من أولويات الحاكم تحقيق المصالح العامة وضبط النظام العام، والحفاظ على نفوس الرعية وأرواحهم وخول له في سبيل ذلك تقييد أفعال الأفراد إذا تعارضت مع ذلك ، فيجوز لولي الأمر إتخاذ الإجراءات اللازمة وسن القوانين والقرارات التي تكفل هذا المقصد الجليل ، وتضمن بها سلامتهم وتنقذ أرواحهم، ويصير الالتزام بهذه القرارات واجب شرعي.
سقوط الجمع والجماعات بسبب الكوارث الطبيعية:
أفتت دار الإفتاء بأن الشريعة الغراء قد أسقطت وجوب الجمعة واستحباب الجماعة حالة وجود الكوارث الطبيعية أو تقلبات الأحوال الجوية من شدة الريح والأمطار وكثرة الطين والوحل وأمرت المسلمين بالصلاة في بيوتهم ورحلهم، ونص على ذلك العلماء سلفًا وخلفًا ورعاية للناس ووقاية لهم من الأذى وإبعادًا لهم من المخاطر والمهالك، فعن أبي المليح عن أبيه –رضي الله عنه-قال: "كنا مع النبي-صلى الله عليه وسلم-بالحديبية فأصابنا مطر، لم يبلَّ أسفل نعالنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "صلوا في رحالكم".
قال ان بطال: "أجمع العلماء أن التخلف عن الجماعة في شدة المطر والظلمة والريح وما أشبه ذلك مباح"، وقال النووي في (المجموع): " كل عذر سقطت به الجماعة في غير الجمعة سقطت به الجمعة إلا الريح في الليل لعدم تصوره".
تعمد مريض كورونا حضور الجماعات والمحافل ومخالطة الناس:
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" لا ضرر ولا ضرار"، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من لا يأمن جاره بوائقه"، وقد رتب الشرع الشريف على ذلك مجموعة من الأساليب الإجرائية والوسائل الوقائية التي تدفع أذى الناس المريضة بأمراض معدية ومؤذية عن الناس الصحيحة وتبعدهم عن محافلهم وتجمعاتهم حتى في العبادات كالصلاة والحج و غيرهما، فقد روي أن عمر بن الخطاب مر على امرأة مجذومة تطوف بالبيت فقال: "يا أمة الله اقعدي في بيتك ولا تؤذي الناس"، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم من أكل من هذه الشجرة –يعني الثوم- فلا يقربن مسجدنا".
قال ابن بطال في شرحه على البخاري:"وهو دليل أن كل ما يُتأذى به كالمجذوم وشبهه يُبعد عن المسجد وحلق الذكر... وهو أصل في نفي كل ما يـتأذى به"
قال ابن حجر الهيتمي في المنهاج القويم: "وكذا نحو المجذوم والأبرص ومن ثم قال العلماء: إنهما يمنعان من المسجد وصلاة الجماعة واختلاطهما بالناس".
وبناء على ذلك فيحرم شرعًا ويجرم قانونًا تعمد مصابي فيروس كورونا أو من يشتبه بإصابته حضور الجمع والجماعات ومخالطة الناس ومزاحمتهم في الأماكن والمواصلات العامة.
وختامًا...نسأل الله ونضرع إليه أن يعجل برفع البلاء والوباء، إنه –سبحانه-على ذلك قدير وبالإجابة جدير، وصل اللهم على سيدنا محمد البشير النذير، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.