حضور التراث الإفتائي والفقهي في جائحة كورونا دحض دعاوى من يقول بتركه بالكلية
كيف سارت العلاقة بين فتاوى كورونا والتراث الإفتائي؟ هل كانت تكاملية أم شابها بعض القصور؟
ما نسبة استدعاء التراث الإسلامي في فتاوى جائحة كورونا؟
هل كانت فتاوى كورونا فعلًا أم رد فعل؟ وكيف بادرت المؤسسات الإفتائية لكبح جماح فوضى فتاوى الجائحة العالمية؟
إيجابيات تفاعل الخطاب الإفتائي مع الأزمة تفوق السلبيات .. وتوصيات بتوحيد مرجعيات فتاوى النوازل
رصد المؤشر العالمي للفتوى التابع لدار الإفتاء المصرية والأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم (GFI) أكثر من (250 ألف فتوى) رسمية وغير رسمية تناولت جائحة كورونا منذ ظهور الوباء العالمي وحتى الآن، وبعد تحليل تلك الفتاوى وأحكامها وسياقاتها توصل مؤشر الفتوى أن الرجوع إلى التراث الفقهي والإفتائي والاستدلال به في تلك الفتاوى جاء بنسبة (30%) من إجمالي فتاوى كورونا، بدليل استدعاء الفتاوى القديمة التي تحضُّ على التباعد الاجتماعي، وغلق المساجد، وتعليق الجمع والجماعات عند الحاجة؛ مما يؤكد على أهمية الاستعانة بتراث السابقين والبناء عليه وتطوير آرائهم لما يتوافق وفقه الواقع والنوازل، وهناك دلالة أخرى شاهدة على نجاح التراث في مجابهة الجوائح والمستجدات وهي أن آراء العلماء والفقهاء والمجتهدين عبر التاريخ الإسلامي تعاملت مع الجوائح من باب تغليب المصلحة العامة والخاصة بما لا يضر أحدًا.
وقد أكد مؤشر الفتوى على أنه بالرغم من وجود آراء معاصرة – تخرج بين الحين والآخر- تدعو إلى إهمال هذا التراث وهدمه وتركه بالكلية؛ فإننا نرى أهمية وجوده، بل إن تلك الأهمية تصبح ضرورية وملحة في كل عصر، فما دوَّنه العلماء والفقهاء في كتبهم ومدوناتهم القديمة بالأمس أصبح مُعينًا لعلماء وفقهاء اليوم في استخراج الأحكام الشرعية وخاصة تلك المتعلقة بالنوازل والجوائح، مما يدحض الادعاء بقصور التراث عن مواكبة العصر، لكن هذا لا يمنع من أهمية أن تُعمل مؤسسات الاجتهاد الجماعي الفكر في جزئيات مهمة من التراث كي تواكب التطور الحادث في القضايا والمجتمعات.
جائحة كورونا والخطاب الإفتائي المعاصر
انتقل مؤشر الفتوى من خلال تحليله للعينة المرصودة إلى بيان حال الخطاب الإفتائي منذ ظهور الجائحة وحتى الآن، موضحًا أنه كان خطابًا على قدر المسئولية، لا سيما من جانب المؤسسات الإفتائية الرسمية، التي وفَّرت الإجابات اللازمة لما أثارتها الجائحة من استفسارات شغلت أذهان الناس، في محاولة جادة وحثيثة منها لفك الإشكاليات وإرشاد المسلمين إلى أمور دينهم، حيث إنها لم تقف موقف المتفرج في ظل تضارب بعض الفتاوى واستخدامها لأغراض خبيثة، ولم تترك المستفتي نهبًا لتيارات الضلال والفتن وأصحاب الأهواء.
حيث أشار مؤشر الإفتاء إلى أن الفتاوى المتعلقة بجائحة كورونا سارت في مسارين مختلفين:
المسار الأول: جاء عبر الاستباق والمبادرة في إصدار الفتاوى وفق ما استدعته تطورات الجائحة في كافة مناحي الحياة وعدم انتظار سؤال المستفتي، ومثل هذا المسار نسبة (60%) من الفتاوى المرصودة.
ومن ذلك فتوى دار الإفتاء المصرية الخاصة بالتبرع ببلازما الدم لعلاج المصابين، وكذلك فتوى إباحة التجارب السريرية أو اختبار الدواء على جسد الإنسان، واعتبار الميت بالوباء شهيدًا، ودعاوى الأخذ بالأساليب الصحية والاحتياطات الاحترازية والتباعد الاجتماعي وغير ذلك من الفتاوى الاستباقية.
وأما المسار الإفتائي الثاني (والذي جاء بنسبة 40%) من جملة الفتاوى المرصودة حول الجائحة؛ حيث تتبع هذا المسار الوباء المستجد وتطوراته أولًا بأول، وأدلى بدلوه في وضوح ومكاشفة تامين، ليبين للناس كل كبيرة وصغيرة في أمور دينهم، ويرد على تطور معين حدث بسبب الوباء، سواء كان هذا الحدث يخص العبادات أو المعاملات أو المستجدات أو المجتمع بشكل عام، ومن ذلك فتاوى الامتناع عن دفن موتى كورونا نتيجة تجمهر بعض الناس لمنع دفن طبيبة توفيت بسبب كورونا، وحكم صلاة الجمعة أو التراويح فوق أسطح المنازل بعد إقامة بعض السلفيين لتلك الصلوات فوق الأسطح أو أمام المساجد.
كيف تفاعل الخطاب الإفتائي مع الأزمة؟
للإجابة عن هذا السؤال لفت مؤشر الفتوى إلى جزئية مهمة وهي مدى تفاعل الخطاب الإفتائي مع الوباء، وكأي تفاعل يكون له إيجابيات وسلبيات أوضح مؤشر الفتوى أن إيجابيات هذا التفاعل كان بنسبة (70%)، وذلك بسبب يقظة الفتاوى الرسمية وجاهزيتها للتفاعل مع الجائحة وما فرضته من قضايا ومسائل، وحرصها على مواكبة الحدث باستمرار، واستحداث فضاءات تكنولوجية جديدة لملاحقة تساؤلات الناس والرد عليها.. الخ. في حين انحصرت السلبيات الخاصة بالتفاعل مع الحدث في نسبة (30%)، وذلك بسبب بعض الفتاوى غير المنضبطة من جانب الجماعات المتشددة وبعض أنصار التيار السلفي بجانب غير المؤهلين الذين تتطوعوا وتصدروا للفتوى بغير علم.
إيجابيات الخطاب الإفتائي في التعامل مع الجائحة
وقف مؤشر الفتوى على مجموعة من الإيجابياتالتي استخلصها من قراءة الخطاب الإفتائي الخاص بكورونا، حيث يأتي على رأسها إحياء التراث الإفتائي والعودة إليه، كما أشرنا سابقًا، وتوجيه المسلمين للجوء إلى الله تعالى والدعاء والأخذ بالأسباب، والتأكيد على اتباع الأساليب الصحية والاحتياطات الاحترازية والتباعد الاجتماعي، وحث المجتمع الإسلامي على الزكاة والصدقات لبيان مدى التكافل والتآزر والإيثار والتضامن مثل فتاوى تعجيل الزكاة.
وكذلك كان من الإيجابيات المهمة، اللجوء للعلماء والأطباء والمحللين والمتخصصين عند الجوائح، وظهور بدائل جديدة خاصة بـ(الفتوى عن بُعد) بدلًا من الفتاوى الشفهية وحضور المستفتين للمؤسسات والهيئات الرسمية بأنفسهم، بجانب التكييف الفقهي الذي يراعي تغير جهات الفتوى الأربع، وتفاعله مع النوازل، فضلًا عن إطلاق المبادرات التي تحث الناس على التبرع للفقراء المتضررين من جراء هذه الأزمة، كمبادرة دار الإفتاء المصرية: "كأني اعتمرت.. الصدقة أولى"، والتعاون المؤسسي الديني مع المؤسسات الأخرى.
سلبيات تفاعل الخطاب الإفتائي مع الأزمة
وبالرغم من هذه الإيجابيات السابقة فإن أي عمل بشري لا يخلو من تقصير، لذا ظهرت بعض السلبيات في تعامل الخطاب الإفتائي مع الجائحة تمثلت في تفسير البعض للجائحة على أنها عقاب إلهي في بعض البلاد، كالصين والغرب مثلًا، مثلما صوَّره خطاب الدواعش وغيرهم، في حين نادى هؤلاء بالأخذ بالإجراءات الاحترازية في أماكن تواجدهم بعد إصابة البعض منهم بالوباء، ومحاربة الفتاوى الرسمية الخاصة بتعليق الصلوات وغلق المساجد واعتبارها فتاوى مسيّسة هدفها الحرب على الدين.
كما أظهر تحليل المؤشر أن (25%) من المحتوى المنشور عبر السوشيال ميديا حول وباء كورونا تضمَّن خرافات وشائعات باسم الدين، وذلك بعد نشر مواقع التواصل الاجتماعي لمحتوى ديني يبث الهلع والرعب بين الناس، وعدم تخصيص مواقع الإفتاء الرسمية لقسم مُستقل يُعنى بالاستشارات والفتاوى الطبية.
المساحة الإشكالية في خطاب كورونا الإفتائي
وأفاد مؤشر الفتوى بأن تحليل خطاب كورونا الإفتائي أماط اللثام عن مساحة إشكالية دارت حول ملامح عدة، أولها ثنائية التضاد حول هل نازلة كورونا عقاب إلهي أم رحمة بالناس؟ ففي حين أكدت عدة فتاوى فردية أن الفيروس عقاب من الله تعالى نظرًا لبداية ظهوره في دول غير إسلامية وعدم الامتثال للأوامر والنواهي الإلهية؛ حاولت المؤسسات الرسمية إعادة الأمل لدى الناس وحثهم على تعزيز علاقاتهم الإيمانية مع خالقهم لرفع البلاء.
أما الملمح الثاني فقد أشار مؤشر الفتوى إلى مجموعة من الأسئلة تدور حول أولوية ترتيب المقاصد الشرعية، هل حياة الإنسان وسلامة أولًا أم الشعائر الدينية وإقامة الأركان؟ واتضحت هذه الإشكالية بشكل جلي في فتاوى غلق المساجد وتعليق الصلوات، والتي قابلها معارضة رافضة بشكل قاطع تلك القرارات والإجراءات، بحجة أن دور العبادة هي أماكن اللجوء لله تعالى واستعادة الروحانيات والتضرع والدعاء.
وكشف الملمح الثالث عن علاقة الدين بالعلم، وهي إشكالية قديمة جديدة أعادتها الجائحة للحياة من جديد، كما أنها أكثر الإشكاليات التي نالت من الدين نيلًا، وذلك رغم علاقة التكامل التي أنتجتها الخطابات الرسمية مع علماء الطب والأوبئة للخروج بفتاوى تحافظ على الإنسانية والقيم الأخلاقية، وهو ما أكدته درجة التوافق والانسجام مع العلم عبر اتباع الإجراءات والسياسات الصحية اللازمة لمواجهة الفيروس، ومطالبة الجميع بالالتزام بها، وهذا ما قامت به دار الإفتاء من عقد اجتماع مع علماء من مختلف التخصصات المرتبطة بالجائحة قبل الخروج بفتوى للناس.
كيفية الاستفادة من تراث الفتاوى
وأكد مؤشر الفتوى أنه من الضروري النظر في كيفية الاستفادة من التراث الإفتائي والفقهي، والانتفاع به في عملية الإفتاء والاجتهاد، لاسيما ما يستجد له من أحوال وعوارض، والقضايا الفقهية المعاصرة والنوازل، وعدّد المؤشر عدة نقاط للاستفادة من تراث الفتاوى تمثلت فيما يلي:
أهم القواعد الفقهية والأصولية التي قامت عليها أحكام الفتاوى الخاصة بكورونا:
توصيات
أوصى المؤشر العالمي للفتوى بعدة نقاط للتعامل المستقبلي مع التراث الإفتائي، تمثلت في التالي:
سيناريوهات المستقبل
وبعد رصد ما سبق، يتصور مؤشر الفتوى أن سيناريوهات المستقبل الخاصة بفتاوى كورونا وعلاقتها بالتراث الإفتائي سيطرأ عليها تحولات مختلفة نذكر منها ما يلي: