الحكم الشرعي من الوجوب والحرمة والكراهة والإباحة والاستحباب والصحة والفساد، الأصل فيها أن تتم بواسطة المجتهدين، فيستنبطون الأحكام من مصادرها المعلومة بحسب ترتيب الأدلة فيبحث المجتهد في القرآن الكريم ثم السنة النبوية إلى آخر الأدلة المتفق عليها وما أدّاه إليه اجتهاده من الأدلة المختلف فيها، وبعد استقرار المذاهب الفقهية وتدوينها وقرّر أصحابها لمن بعدهم أدلتها وطرق الاستنباط التي اتبعوها في الوصول لهذه الأحكام؛ أصبح البحث مقصورا عليها، والفتوى بما فيها، وفي حالة ظهور فرع جديد غير منصوص عليه يلجأ أهل كل مذهب إلى التخريج على أقوال أئمتهم، ولكن نصوص الفقهاء لا تفي بجميع الحوادث، بخلاف نصوص الشارع فإنها لما تميزت به من الأحكام الكلية، التي تسع الكثير من الجزئيات مع قابليتها لأكثر من فهم وتفسير، مما ساعد على وجود التعددية الفقهية، وإيجاد الحلول والبدائل الشرعية للمشكلات والنوازل الجديدة، فأصبحت بذلك ذات سعة للمجتهد أكثر من نصوص الفقهاء بشرط تحقق شروط الاجتهاد فيه ولا يخلوا الزمان من مجتهد كما قرره السيوطي في رسالته" الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصر فرض"، فمن اجتمعت فيه أدوات الاجتهاد عليه أن يستنبط الأحكام للمسائل المستجدة، وكذا الاجتهاد الجماعي فإنه يقوم بهذا الفرض.
بين المفتي والمجتهد
ولما كانت الوقائع لا تخلو عن حكم لله تعالى فيها، وإدراك هذا الحكم وإبرازه في الأصل إنما يكون بواسطة المجتهدين وهم المفتون على الحقيقة، يقول ابن الصلاح في "أدب المفتي والمستفتي"(ص42): "وشرطه -أي المفتي المستقل-: أن يكون قيمًا بمعرفة أدلة الأحكام الشرعية من الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، وما التحق بها على التفصيل، وقد فصلت في كتب الفقه، وغيرها؛ فتيسرت والحمد لله، عالما بما يشترط في الأدلة ووجوه دلالتها، وبكيفية اقتباس الأحكام منها، وذلك يستفاد من علم أصول الفقه، عارفًا من علم القرآن، وعلم الحديث، وعلم الناسخ والمنسوخ، وعلمي النحو، واللغة، واختلاف العلماء واتفاقهم بالقدر الذي يتمكن به من الوفاء بشروط الأدلة والاقتباس منها، ذا دربة وارتياض في استعمال ذلك، عالما بالفقه، ضابطًا لأمهات مسائله وتفاريعه المفروغ من تمهيدها، فمن جمع هذه الفضائل فهو المفتي المطلق المستقل الذي يتأدّى به فرض الكفاية، ولن يكون إلا مجتهدًا مستقلا، والمجتهد المستقل: هو الذي يستقل بإدراك الأحكام الشرعية من الأدلة الشرعية من غير تقليد وتقيد بمذهب أحد".
ولكن لما ندر وجودهم مع تتابع الأعصار واشتهرت المذاهب الفقهية في أكثر البلدان وصار غالب أهلها متمذهبين بها ومقلدين لها جيلا بعد جيل ولاسيما أنه قد شاع عند البعض غلق باب الاجتهاد حتى لا يتسور بعض القاصرين عنها على هذه المرتبة يقول ابن الصلاح (ص46): " ومنذ دهر طويل طوي بساط المفتي المستقل المطلق، والمجتهد المستقل، وأفضى أمر الفتوى إلى الفقهاء المنتسبين إلى أئمة المذاهب المتبوعة".
مراتب المفتين المنتسبين لمذهب
المفتون المنتسبون لأحد المذاهب الفقهية على مراتب قد ذكرها ابن الصلاح وتبعه عليها النووي في مقدمة المجموع وغيره، وهي أربع:
الأولى: أن يكون جمع الأوصاف والعلوم المشترطة في المستقل، وإنما ينتسب إليه لكونه سلك طريقه في الاجتهاد، ودعا إلى سبيله.
الحالة الثانية: أن يكون مجتهد مذهب يقرره بالدليل، غير أنه لا يتجاوز في أدلته أصول إمامه وقواعده، ومن شأنه أن يكون عالما بالفقه، خبيرًا بأصول الفقه، عارفًا بأدلة الأحكام تفصيلا، بصيرًا بمسالك الأقيسة والمعاني، تام الارتياض في التخريج والاستنباط قيمًا بإلحاق ما ليس بمنصوص عليه في مذهب إمامه بأصول مذهبه وقواعده، ولا يعرى عن شوب من التقليد له، لإخلاله ببعض العلوم والأدوات المعتبرة في المستقل، مثل أن يخل بعلم الحديث أو بعلم اللغة العربية، وكثيرًا ما وقع الإخلال بهذين العلمين في أهل الاجتهاد المقيد، ويتخذ نصوص إمامه أصولًا يستنبط منها نحو ما يفعله المستقل بنصوص الشارع.
الحالة الثالثة: ألا يبلغ المرتبة السابقة، غير أنه فقيه النفس حافظ لمذهب إمامه، عارف بأدلته، قائم بتقريرها، وبنصرته، يصور، ويحرر، ويمهد، ويقرر، ويزيف، ويرجح، لكنه قصر عن درجة أولئك، إما لكونه لم يبلغ في حفظ المذهب مبلغهم، وإما لكونه لم يرتضي في التخريج والاستنباط كارتياضهم.
الحالة الرابعة: أن يقوم بحفظ المذهب ونقله، وفهمه في واضحات المسائل ومشكلاتها، غير أن عنده ضعفًا في تقرير أدلته وتحرير أقيسته، فهذا يعتمد نقله وفتواه به فيما يحكيه من مسطورات مذهبه من منصوصات إمامه وتفريعات أصحابه المجتهدين في مذهبه وتخريجاتهم، وأما ما لا يجده منقولا في مذهبه، فإن وجد في المنقول ما هذا في معناه بحيث يدرك من غير فضل فكر وتأمل أنه لا فارق بينهما.
واختلف العلماء فيمن كانت هذه حالته هل فرض الكفاية يتأدّى به أم لا؟ لأن ما فيه من التقليد نقص وخلل، قال ابن الصلاح (ص49): "يظهر أنه يتأدّى به فرض الكفاية في الفتوى، وإن لم يتأد به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها استمداد الفتوى، لأنه قد قام في فتواه مقام إمام مطلق، فهو يؤدي عنه ما كان يتأدى به الفرض حين كان حيًّا قائمًا بالفرض فيها، والتفريع على الصحيح في أن تقليد الميت جائز".
بين المفتي المجتهد والمفتي المقلد
والمقصود مما ذكرناه التنبيه على ضرورة التمييز بين مراتب المفتين، وأن التراث الفقهي على شتى مذاهبه ومدارسه الذي تفتخر به أمتنا الإسلامية، وهو منجم للفقهاء والمفتين يجدون فيه بغيتهم، ويستهدون بالتخريج عليه عند الحاجة، لا يؤخذ على علّاته، بل ينبغي التعامل معه بدقة وحذر وليس لكل أحد النقل عنه في النوازل المعاصرة بغير تبصر بفارق الزمان والمكان فالعلماء الراسخون الذين توفرت فيهم أهلية الاجتهاد والفتوى يتعاملون معه وفق ضوابط وآليات معينة ليست عند غيرهم، وكثيرا ما نشاهد من المتمذهبين فضلا عن غيرهم الاستشهاد بجزئيات من هذا التراث ويسقطونها على واقع مختلف، أو بعدم تمييز لعلل الأحكام ويخرجون بأحكام عجيبة مغايرة لمقصود الشرع، ونافرة عن الواقع المعيش كل المنافرة، وما ذلك إلا لعدم وجود آلية التمييز بين الثابت والمتغير عبر الزمان، وبعض هؤلاء حسنو النية يظنون أنهم يحافظون على تراث مذاهبهم من التغيير والضياع، ولكن يسيئون للشرع الحنيف من حيث ظنوا أنهم يحسنون صنعا، فالتراث الفقهي ثمرة تفاعل المجتهدين مع مصدري المعرفة الرئيسيين القرآن الكريم والسنة المطهرة وهذا التفاعل له واقع تاريخي، منه ما لا يتغير به، ومنه ما يتغير، كما في الأحكام المترتبة على العوائد فإنها تدور معها كيفما دارت، وتبطل معها إذا بطلت وقد أدرك كثير من أئمة المذاهب ذلك ونبهوا على الجمود مع المنقول أبدا ضلال في الدين، يقول القرافي المالكي في الفروق(1/177):" وعلى هذا القانون تراعى الفتاوى على طول الأيام فمهما تجدد في العرف اعتبره ومهما سقط أسقطه، ولا تجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك لا تجره على عرف بلدك، واسأله عن عرف بلده واجره عليه، وأفته به دون عرف بلدك، والمقرر في كتبك فهذا هو الحق الواضح، والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين".
وعقب عليه ابن القيم الحنبلي بقوله في إعلام الموقعين (3/66):" وهذا محض الفقه، ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم من جناية من طبب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان".
وكذا نبه عليه ابن عابدين الحنفي فقال في شرح عقود رسم المفتي (ص45):" إن كثيرا من الأحكام التي نص عليها المجتهد صاحب المذهب بناء على ما كان في عرفه وزمانه قد تغيرت بتغير الأزمان...إما للضرورة، وإما للعرف، وإما لقرائن الأحوال، وكل ذلك غير خارج عن المذهب لأن صاحب المذهب لو كان في هذا الزمان لقال بها".
أثر الاجتهاد في النوازل المستجدة
الاجتهاد من المتأهل سواء أكان فرديا أم جماعيا هو الأقرب لتحقيق المقاصد الشرعية في النوازل المعاصرة، ومن ذلك هذه النازلة الحالية وخاصة مع انتشار الموجة الثانية لوباء فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) وقد توالت الفتاوى والبيانات من المؤسسات الإفتائية والهيئات الشرعية في العالم لبيان الأحكام المتعلقة بهذه النازلة مما تطلب استعمال الرخص والتخفيفات الشرعية المتاحة لدفع هذا الوباء.
ورأينا كيف كانت المؤسسات والهيئات ودور الفتوى بالعالم على وعي كامل بهذه الأزمة الخطيرة، ولا زالت تصدر الفتاوى المهمة لهذه النازلة، وكم كانت هذه المؤسسات على علم بهذه الظروف الاستثنائية -على الرغم من تشكيك البعض في صوابها- فكانت فتاواها موفقة، وقد أعطت المساحة الكافية للحكومات والدول لأخذ إجراءات حاسمة لدفع ومنع انتشار هذا الوباء، ولكن رأينا على نفس الصعيد فتاوى أخرى فردية لم تكن على نفس هذه الدرجة من المسؤولية والوعي بأهمية الإجراءات الاحترازية والوقائية، مما جعل هذه الفتاوى مع شذوذها تنذر بأهمية الوعي بمراتب المفتين ومن يقدم قوله منهم على غيره، وقد رأينا أن الفتاوى الصادرة من المجتهدين المؤهلين والمؤسسات الإفتائية، والمجامع الفقهية، كانت هي محل الاعتبار لدى الدول والحكومات الإسلامية وجمهور المسلمين.