أوجب الحق تبارك وتعالى الحفاظ على النفس ونهى عن تعريضها لكل ما يتسبب في هلاكها، فقال تعالى: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة: 195]، وجعل التعدي على نفس واحدة بغير حق كالتعدي على البشرية كلها، وإنقاذها إحياء للبشرية كلها فجاء في الكتاب العزيز: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]، وفهم العلماء من هذه النصوص وغيرها أن الحفاظ على الأنفس مقصد من المقاصد الشرعية العظمى، وعلى ضوء هذا المقصد فهموا كثيرا من الأحكام الجزئية التي ترمي إليه وتراعيه.
وفي الوقت الذي يواجه العالم فيه تداعيات الموجة الثانية من انتشار فيروس (كورونا) قامت دور الإفتاء بواجبها وأصدرت عددا من الفتاوى التي توضح للمستفتين ما يتأكد عليهم فعله في هذه الظروف الاستثنائية، ومن ذلك:
الإلزام بارتداء الكمامة في زمن الوباء:
حيث أصدرت دار الإفتاء المصرية فتوى بهذا الخصوص رقمها 5117، بتاريخ 6/6/2020م ملخصها:
"لَمَّا كان انتشار الوباء عن طريق الجهاز التنفسي يستوجب تغطية الأنف والفم في التجمعات والأماكن العامة، مع ما تقتضيه الظروف الاقتصادية من ضرورة الحراك المجتمعي المقيَّد في التعاملات اليومية، فإن هذا يسوغ لولي الأمر الإلزام بارتداء الكمامة والإجراءات الوقائية، وهذا وإن كان فيه نوع تقييد للحرية الفردية، إلا أنه مع ذلك سبيلٌ للأمن الوقائي والسلامة المجتمعية، وكما أن ولاة الأمر مكلفون شرعًا بالسعي في الحفاظ على نفوس الرعية وأرواحهم؛ بموجب العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم، فهم مُخَوَّلون شرعًا أيضًا باتخاذ الإجراءات اللازمة وسن القوانين والقرارات التي تكفل تحقيق هذا المقصد الجليل، وتنضبط بها مصالح الناس، وتُضْمَنُ بها سلامتُهم وأمنهم في مجتمعاتهم، والتزام هذه القرارات واجب شرعي، والنية الصالحة في التزامها سبب للأجر والثواب شرعًا، وعلى مخالفها تبعةُ مخالفته وآثارها."
لبس الكمامة في الصلاة:
وأصدرت دار الإفتاء المصرية أيضا فتوى رقم 5114، بتاريخ 31/3/2020م بينت فيها حكم لبس الكمامة في الصلاة تحرُّزًا من الإصابة بعدوى الكورونا، انتهت فيها إلى مايلي:
" لا مانع شرعًا من لبس الكمامة في الصلاة؛ تحرُّزًا من عدوى فيروس "كورونا"، ولا يدخل ذلك تحت تغطية الفم والأنف المنهي عن تغطيتهما في الصلاة؛ بل هو عذرٌ من الأعذار المبيحة، وحالة من الحالات المستثناة من الكراهة؛ كالتثاؤب المأمور بتغطية الفم طروِّه من المصلي، وأجاز الفقهاء حالات أخرى يستثنى فيها تغطية الفم والأنف في الصلاة؛ كالحرِّ والبرد ونحوهما من الأعذار العارضة؛ لأن النهي هو عن الاستمرار فيه بلا ضرورة؛ بل أجاز بعضهم استمراره في الصلاة لِمَن عُرفَ أنه من زيِّه، أو احتيجَ له لعمَلٍ أو نحوه. وقد ثبت ضرر هذا الفيروس وسرعة انتقاله عن طريق المخالطة؛ فيكون اتِّقاؤه والحذر منه أشد، فتتأكد مشروعية تغطية الأنف والفم بالكمامة في جماعة الصلاة؛ حذرًا من بلواه، واجتنابًا لعدواه، واحترازًا من أذاه."
منع المصاب بكورونا من مخالطة سائر الناس:
وفي هذا السياق أيضا أصدرت دائرة الإفتاء الأردنية فتوى بينت فيها حكم من علم بإصابته بالكورونا ثم يتسبّب في نقل العدوى للآخرين، حيث قرر مجلس الإفتاء والبحوث والدراسات الإسلامية في جلسته الثانية عشرة المنعقدة يوم الاثنين 16/ربيع الأول/ 1442هـ، الموافق 2/ 11 / 2020م، أن "من أصيب بالكورونا أو اشتبه بإصابته به يحرم عليه أن يخالط سائر الناس؛ حتى لا يكون سببًا في نقل المرض إليهم وإلحاق الضرر بهم، والإضرار بالبلد وأمنه الصحي والاقتصادي مما يعطّل مصالح العباد والبلاد.
وقد أمرنا النبيّ صلى الله عليه وسلم بالحجر الصحيّ عند وجود الطّاعون الذي هو وباء معد، فقال: (إذا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلاَ تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا، فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْه) متفق عليه، والنّهي الوارد في الحديث حمله العلماء على التحريم، أي تحريم الدّخول في البلد الذي وقع فيه الوباء (الطاعون) وتحريم الخروج منه. وقد سئل الإمامُ الشّهاب الرمليّ عن ذلك، فأجاب: "بِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْفِرَارِ مِنْ الطَّاعُونِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهِ حَرَامٌ". وعليه يُقاس كلّ وباءٍ معدٍ مثل (الكورونا) فيحرم على المصاب به أن يخالطَ غيرَهُ من الناس في أماكن تجمّعاتهم كالأسواق والأندية ودور العبادة والمناسبات الاجتماعية؛ ويعتبر آثما إن فعل ذلك؛ لأن ذلك يتسبب بإلحاق الضرر بهم، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يقول: (لاَ ضَرَرَ وَلاَ ضِرَارَ) رواه مالك في الموطأ. وفي الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مَن أكل كلّ ذي ريح كريه أن يعتزل المسجد ولا يقربه، بل أمر به أن يخرج إلى البقيع كما في صحيح مسلم، فكيف بمرضٍ معدِ يودي بالحياة. والله تعالى يقول: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32]
لذلك يجب على المصاب أن يلتزم بالعزل الصحي وكل التوجيهات الوقائية التي يقررها أهل الاختصاص، ويجب على الناس جميعاً لبس الكمامة والتباعد الجسدي والتعقيم وغيرها من وسائل الوقاية، ومن لم يلتزم بذلك فهو آثمٌ شرعاً، ويعد ساعياً في نشر الفساد في الأرض، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة: 205]. فمن أقدم على ذلك استحق العقوبة في الدنيا والآخرة لمخالفته لأمر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ومخالفته لولي الأمر الذي منعه من التجول والمخالطة بما يدفع الضرر عن الناس ويحقق مصالحهم؛ فإنَّ تصرف ولي الأمر على الرعية منوط بالمصلحة، وله تقدير العقوبة الدنيوية على المخالفين بحسب القواعد الشرعية."
صلاة الغائب على المتوفى بفيروس كورونا:
حيث أصدرت دار الإفتاء المصرية فتواها رقم: 5013 بتاريخ : 09/07/2020م، والتي كانت إجابة على السؤال التالي:
في ظل ما يعانيه معظم بلاد العالم من "فيروس كوفيد-19" والإجراءات الاحترازية التي قامت بها الدولة؛ ومنها حظر حركة المواطنين حفاظًا على التباعد الاجتماعي لمنع تفشي الوباء؛ فهل تجوز صلاة الغائب على مَنْ مات بهذا الفيروس؛ نظرًا لعدم استطاعة البعض الصلاة على الميت في ظل هذه الأوضاع؟
فكان خلاصة جوابها بعد عرض أراء المذاهب الفقهية في الصلاة على الغائب أن "الأصل في صلاة الجنازة أن يكون الميت حاضرًا بين يدي الإمام والمصلين؛ فإذا تَعَذَّر حضور المصلين للصلاة على الجنازة كما هو الحال في بعض الوفيات الحاصلة بـ"فيروس كوفيد-19"، أو تَعذَّر الصلاة عليها وسط الإجراءات الاحترازية التي وضعتها الدولة؛ فلا مانع شرعًا من صلاة الجنازة على هذا الميت الغائب، ويراعى في الصلاة عليه ما يراعى في صفةِ الصلاة على الجنازة على الميت الحاضر من حيث الأركان والشروط والسُّنَن."
وبهذه الفتاوى وغيرها التي تصدر عن المؤسسات الإفتائية الأخرى يكون أهل الفتوى قد أسهموا في مواجهة هذا الفيروس بما قد أُتيح لهم من الفهم الصحيح للدين الحنيف وأراء المذاهب الفقهية.
نسأل الله تعالى أن يرفع عنا وعن جميع البشرية هذا الوباء.