الفاقهون لأسرارها، العالمون بمقاصدها و مراميها، لذا كان هذا المؤلَّف متميزًا في موضوعه ومادته و أسلوب تناوله، ولا عجب في هذا فمؤلفه هو الإمام شهاب الدين القرافي، أحد كبار علماء الشريعة في عصره ، المتفنن في العلوم والفنون، فلم يقتصر علمه على الفقه والأصول واللغة و سائر العلوم الشرعية فقط، بل أتقن العلوم التجريبية وله فيها مؤلفات.
وسنبدأ أولًا-كعادتنا- بالتعريف بهذا الإمام العظيم و أهم مؤلفاته، ثم نثني بذكر سبب تأليفه، ثم ننتهي بذكر بعض نماذج للأراء والمسائل التي تناولها الإمام في هذا السفر العظيم حسبما يسمح المقام، ثم نكمل بقية الآراء والمسائل في العدد القادم بإذن الله.
التعريف بالمؤلف:
هو الإمام شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصهناجي الأصل، المصري القرافي المالكي، ولد بمصر سنة 626، يقول عن نفسه:" وإنما أنا من صنهاجة الكائنة في قطر مراكش بأرض المغرب ونشأتي ومولدي بمصر"، وسبب شهرته بالقرافي أنه كان إذا خرج من منزله في دير الطين بمصر القديمة ذاهبا إلى المدرسة، مر في طريقه بمقبرة تسمى: القرافة.
وقد تلقى العلم على أكابر شيوخ عصره وانتفع بهم، ومنهم: ابن الحاجب، وعزالدين بن عبد السلام، والشريف الكركي، وشمس الدين محمد بن إبراهيم المقدسي.
وقد تفنن في علوم مختلفة كالفقه والأصول و الأديان وغير ذلك، وله إسهامات علمية في العلوم التجريبية، كما يظهر ذلك من كثرة مؤلفاته و ما تتميز به من عمق و جدة، يقول الشيخ عبد الفتاح أبوغدة: وقد تحلت مصنفاته كلها بالإبتكار والتميز: لغة وأسلوبا، وبحثا وتنقيبا، ونخلا وتحقيقا، وجمعا وتنسيقا، حتى ألزمت البعيد والقريب بالإذعان لإمامته، ولو لم يكن له من التآليف سوى كتابه "الفروق" لكفى دليلا على علو كعبه في العلم، فهو كتاب نسيج وحده، جاء فيه بالعجب العجاب، لم يسبق إلى مثله، ولا أتى أحد بعده بشبهه، فكيف ومؤلفاته أربت على عشرين مؤلفا في فنون متعددة، وفيها النفائس والدرر".
وقد توفي رحمه الله في آخر من جمادى الآخرة ودفن يوم الإثنين مستهل رجب سنة 684 هـ.
من أهم مؤلفاته:
الفروق. ويعرف بالقواعد أيضا، واسمه العلمي: أنوار البروق في أنواء الفروق
الذخيرة في الفقه المالكي
العقد المنظوم في الخصوص والعموم
نفائس الأصول في شرح المحصول
شرح الأربعين في أصول الدين للفخر الرازي
المناظر في الرياضيات
الأجوبة الفاخرة في الرد على الأسئلة الفاجرة
الاستغناء في أحكام الاستثناء
اليواقيت في علم المواقيت
سبب تأليف الكتاب:
يقول المؤلف-رحمه الله-: فإنه قد وقع بيني وبين الفضلاء مع تطاول الأيام مباحث في أمر الفرق بين الفتيا التي تبقى معها فتيا المخالف، وبين الحكم الذي لا ينقضه المخالف، وبين تصرفات الحكام وتصرفات الأئمة. ويختلف في إثبات أهلة رمضان بالشاهد الواحد، هل يلزم ذلك من لا يرى إثباته إلا بالشاهدين أم لا؟ ويختلف إذا باع الحاكم من مال الأيتام شيئا هل ذلك حكم بصحة ذلك البيع؟ فلا ينقضه غيره أم لا؟ وهل إذا حكم بعدالة إنسان هل لغيره أن يبطلها؟ أم ذلك حكم لا ينقض؟ ونحو هذه المسائل...،فأردت أن أضع هذا الكتاب مشتملا على تحرير هذه المطالب. وأوردها أسئلة كما وقعت بيني وبينهم، ويكون جواب كل سؤال عقيبه، وأنبه على غوامض تلك المواضع وفروعها في الأحكام والفتاوى وتصرفات الأئمة، وسميت هذا الكتاب: كتاب الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام، وعدد الأسئلة أربعون سؤالا."
نماذج لبعض أطروحات المؤلف:
اتباع حكم الحاكم في المسائل الاجتهادية:
السؤال: كيف يمكن أن يقال: إن الله تعالى جعل لأحد أن ينشئ حكما على العباد؟ وهل ينشئ الأحكام إلا الله تعالى؟ فهل لذلك نظير وقع في الشريعة أو ما يؤنس هذا المكان ويوضحه؟
جوابه: لا غرو في ذلك ولا نكير...، قرر (أي: الله) في أصل شريعته أن للمكلف أن ينشئ الوجوب فيما ليس بواجب في أصل الشرع، فينقل أي مندوب شاء فيجعله واجبا عليه. وخصص ذلك بالمندوبات، وخصص الطريق الناقل للمندوبات إلى الواجبات بطريق واحد وهو النذر. فالنذر إنشاء للوجوب في المندوب.
قرر الله تعالى أيضا الإنشاء للمكلف في صورة أخرى، وذلك أن الله تعالى لما شرع الأحكام شرع الأسباب، وكما جعل الأحكام على قسمين: منها ما قرره في أصل شرعه كوجوب الصلوات الخمس ونحوها ومنها ما وكله للمكلف، وهو إيجاب المندوب بالنذر فكذلك جعل الأسباب على قسمين: منها ما قرره في أصل الشريعة، ومنها ما وكل إنشاء سببيته إلى المكلف، وهو عام لم يخصصه بمندوب ولا غيره.
بل له أن ينشئ السببية في المندوبات والواجبات والمحرمات والمكروهات والمباحات وما ليس فيه حكم شرعي البتة، كفعل النائم والساهي والمخطئ والمجنون والبهيمة وحركات الرياح والسحب والسيول ونحو ذلك، فإن هذه الأفعال ليس لله تعالى فيها حكم، ولا تعلق بها خطاب يقتضي حكما ألبتة، ومع ذلك فلكل مكلف أن يجعل أي ذلك شاء سببا لطلاق امرأته، أو عتق عبده، أو إيجاب حج عليه...، وإذا تقرر أن الله تعالى جعل لكل مكلف - وإن كان عاميا جاهلا - الإنشاء في الشريعة لغير ضرورة، فأولى أن يجعل الإنشاء للحكام مع علمهم وجلالتهم لضرورة درء العناد، ودفع الفساد، وإخماد النائرة ( أي العداوة والشحناء).، وإبطال الخصومة. فهذان بابان مؤنسان بل بطريق الأولى كما ظهر لك.
وأما الدليل على ذلك فهو الإجماع من الأئمة قاطبة أن حكم الله تعالى ما حكم به الحاكم في مسائل الإجتهاد...، وأن ذلك الحكم يجب تباعه على جميع الأمة، ويحرم على كل أحد نقضه. وهذا شيء نشأ بعد حكم الحاكم لا قبله، لأن الواقعة كانت قبل هذا قابلة لجميع الأقوال، ولأنواع النقوض والمخالفات. ولا نعني بالإنشاء إلا هذا القدر، فقد وضح ذلك وبان.
الفرق بين الإمام (الحاكم) والقاضي والمفتي:
السؤال: ظهر الفرق بين المفتي والحاكم، فما الفرق بينهما وبين الإمام الأعظم في تصرفاته؟
جوابه: أن الإمام نسبته إليهما كنسبة الكل لجزئه والمركب لبعضه. فإن للإمام أن يقضي وأن يفتي كما تقدم، وله أن يفعل ما ليس بفتيا ولا قضاء كجمع الجيوش، وإنشاء الحروب، وحوز الأموال، وصرفها في مصارفها، وتولية الولاة، وقتل الطغاة. وهي أمور كثيرة يختص بها لا يشاركه فيها القاضي ولا المفتي. فكل إمام: قاض ومفت، والقاضي والمفتي لا يصدق عليهما وصف الإمامة الكبرى.
ونبه على هذه الخصائص قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أقضاكم علي ، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل" وأشار إلى إمامة الصديق - رضي الله عنهم أجمعين - بقوله - عليه الصلاة والسلام -: "مروا أبا بكر يصلي بالناس"، قال العلماء: كان - صلى الله عليه وسلم - يريد أن ينزل عليه وحي بإمامة أبي بكر فلم ينزل عليه ذلك، فألهم - صلى الله عليه وسلم - بالتنبيه لوجه المصلحة بالاستنابة في الصلاة، حرصا على مصلحة الأمة بالتلويح، وأدبا مع الربوبية بعدم التصريح، فكمل له الشرف، وانتظمت له ولأمته المصلحة - صلى الله عليه وسلم -، قال العلماء: وإذا كان معاذ أعلم بالحلال والحرام فهو أقضى الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. فما معنى قوله - عليه الصلاة والسلام -: "أقضاكم علي"؟ أجابوا - رضي الله عنهم - بأن القضاء يرجع إلى التفطن لوجوه حجاج الخصوم. وقد يكون الإنسان أعلم بالحلال والحرام وهو بعيد عن التفطن للخدع الصادرة من الخصوم والمكايد والتنبه لوجه الصواب من أقوال المتحاكمين...، هذا باب آخر عظيم يحتاج إلى فراسة عظيمة، وفطنة وافرة، وقريحة باهرة، ودربة مساعدة، وإعانة من الله تعالى عاضدة، فهذا كله محتاج إليه بعد تحصيل الفتاوى، فقد يكون الأقضى أقل فتيا حينئذ...، وظهر حينئذ أن القضاء يعتمد الحجاج، والفتيا تعتمد الأدلة، وأن تصرف الإمامة الزائد على هذين يعتمد المصلحة الراجحة أو الخالصة في حق الأمة، وهي غير الحجة والأدلة. يتبع