قد ذكرنا في المقال السابق ما لإمام الحرمين وكتابه "غياث الأمم في التياث الظلم" من أهمية بالغة في مجال فقه استشراف المستقبل، وبينا أنّه ينبغي لمن يريد هذا النوع من الفقه أن يسترشد بهذه المحاولة الرائدة؛ فينظر في المنهج الذي ارتسمه وسلكه إمام الحرمين في التنظير والتطبيق، وسنحاول في هذه العجالة أن نلم ببعض من ذلك مع بيان نموذج للأثر الإفتائي الذي انبنى على محاولته تلك في العصر الحديث.
منهج الإمام في الغياثي
لقد طال تفكر الإمام لحال زمانه وتقلبه، ثم استشرف -بقوة تأمله- المستقبل بأنه قد يتغير النظام القائم من وجود الإمامة العظمى، أو ذهاب الأئمة المجتهدين في الشرع، وحملة العلم، وأنه يجب التدبير لأسوء الحالات التي يمكن أن تحل بالأمة أو طوائف منها عند انقطاع الإمامة، أو ذهاب علم الأحكام، واندراس معالم الفقه، وذهاب حملته، على حسب تعبيره.
فلذلك صنف كتاب الغياثي وجعله على ثلاثة أركان أساسية يتشعب عنها الكتاب إلى أبواب وفصول، وهذه الثلاثة على ترتيبها في الكتاب:
الركن الأول: في الإمامة وما يليق بها من الأبواب.
الركن الثاني: في تقدير خلو الزمان عن الأئمة وولاة الأمة.
الركن الثالث: في تقدير خلو الزمان عن المجتهدين ونقلة المذاهب وأصول الشريعة.
ومن خلال تتبع كلامه نقف على بعض الخطوط العريضة التي أرساها الإمام؛ فمنها على سبيل الإجمال:
الإحاطة التامة بالشريعة كليا وجزئيا وتتبع مصادرها ومعرفة أسرارها، وقد أعرب الإمام عن ذلك قبل خوضه في الركن الثالث من الغياثي فقال (ص397): "مضمون هذا الركن يستدعي نخل الشريعة من مطلعها إلى مقطعها، وتتبع مصادرها ومواردها واختصاص معاقدها وقواعدها، وإنعام النظر في أصولها وفصولها، ومعرفة فروعها وينبوعها، والاحتواء على مداركها ومسالكها، واستبانة كلياتها وجزئياتها، والاطلاع على معالمها ومناظمها، والإحاطة بمبدئها ومنشئها، وطرق تشعبها وترتبها، ومساقها ومذاقها، وسبب اتفاق العلماء وإطباقها، وعلة اختلافها وافتراقها، ولو ضمنت هذا المجموع ما أشرت إليه، ونصصت عليه لم يقصر عن أسفار ثم لا يحوي منتهى الأوطار وإنما ذكرت هذه المقدمة ليعتقد الناظر في هذا الفن أنه نتيجة بحور من العلوم، لا يعبرها العوام ولا تفي ببدائعها الأيام والأعوام، وقلما تسمح بجمعها لطالب واحد الأقدار والأقسام ولولا حذار انتهاء الأمر إلى حد التصلف والإعجاب، لآثرت في التنبيه على علو قدر هذا الركن التناهي في الإطناب".
الاجتهاد في المسائل التي لم يتكلم عنها السابقون، وعدم تهيبه الخوض في تلك المسائل، وهذه من إحدى خصائص المجتهدين؛ فيقول الإمام (ص266): "لست أحاذر إثبات حكم لم يدونه الفقهاء، ولم يتعرض له العلماء، فإن معظم مضمون هذا الكتاب لا يلفى مدونا في كتاب، ولا مضمنا لباب، ومتى انتهى مساق الكلام إلى أحكام نظمها أقوام، أحلتها على أربابها وعزيتها إلى كتابها، ولكني لا أبتدع، ولا أخترع شيئا، بل ألاحظ وضع الشرع، وأستثير معنى يناسب ما أراه وأتحراه، وهكذا سبيل التصرف في الوقائع المستجدة التي لا توجد فيها أجوبة العلماء معدة، وأصحاب المصطفى - صلى الله عليه وسلم- ورضي عنهم، لم يجدوا في الكتاب والسنة إلا نصوصا معدودة وأحكاما محصورة محدودة، ثم حكموا في كل واقعة عنت، ولم يجاوزوا وضع الشرع، ولا تعدوا حدوده؛ فعلمونا أن أحكام الله تعالى لا تتناهى في الوقائع، وهي مع انتفاء النهاية عنها صادرة عن قواعد مضبوطة".
إعمال قواعد الشرع ومقاصده الكلية وتخريج الفروع عليها، وهذه عادة إمام الحرمين إعمال القواعد بل واستنباطها أحيانا ثم يخرج الفروع عليها حتى تنتظم في سلك واحد، وقد عبر هو عن ذلك فقال (ص435): " المقصود الكلي من هذه المرتبة أن نذكر في كل أصل من أصول الشريعة قاعدة تنزل منزلة القطب من الرحى، والأس من المبنى، ونوضح أنها منشأ التفاريع وإليه انصراف الجميع، والمسائل الناشئة منها تنعطف عليها انعطاف بني المهود من الحاضنة إلى حجرها، وتأزر إليها كما تأزر الحية إلى جحرها".
ترك الإغراق في تفصيل الأحكام الفقهية وإحالته فيها على كتب الفقه، ولذلك أحال في أكثر من موطن إلى كتب الفقه، وصرح بترك الخوض في التفاصيل لأنه ليس هذا محلها، بل قد نعى إمام الحرمين على بعض المصنفين الذين مصنفاتهم ما هي إلا جمع وتكرار لما ذكره الأئمة السابقون من غير تمحيص، فيقول (ص141): "والشكوى إلى الله ثم إلى كل محصل مميز، من تصانيف ألفها مرموق، متضمنها ترتيب وتبويب، ونقل أعيان كلام المهرة الماضين، والتنصيص على ما تعب فيه السابقون، مع خبط كثير في النقل وتخليط، وإفراط وتفريط، لا يرضى بالتلقب بالتصنيف مع الاكتفاء بالنقل المجرد حصيف، ثم من لم يكن في تأليفه وتصنيفه على بصيرة، لم يتميز له المظنون عن المعلوم، والتبست عليه مسالك الظنون بمدارك العلوم".
أثر استشراف الإمام في الفتيا "سقوط الخلافة نموذجا"
تكلم إمام الحرمين عن سقوط الخلافة وذهابها وذلك في الباب الثالث من الركن الثاني وهو بعنوان "شغور الدهر عن والٍ بنفسه أو متول بغيره"، ومما قاله بعد تصويره الواقعة عن بعض العلماء مقرا له (ص 387): "لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قُطَّانِ كل بلدة، وسكان كل قرية، أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحجا من يلتزمون امتثال إشاراته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره؛ فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، ترددوا عند إلمام المهمات، وتبلدوا عند إظلال الواقعات"، ثم قال بعد ذلك (392): "ومن الأسرار في ذلك أنه إذا وجد في الزمان كاف ذو شهامة، ولم يكن من العلم على مرتبة الاستقلال، وقد استظهر بالعدد والأنصار، وعاضدته مواتاة الأقدار، فهو الوالي وإليه أمور الأموال والأجناد والولايات، لكن يتحتم عليه ألا يبت أمرا دون مراجعة العلماء.
فإن قيل: هلا جزمت القول بأن عالم الزمان هو الوالي وحق على ذي النجدة والباس اتباعه، والإذعان لحكمه، والإقرار لمنصب علمه؟!
قلنا: إن كان العالم ذا كفاية وهداية إلى عظائم الأمور، فحق على ذي الكفاية العري عن رتبة الاجتهاد أن يتبعه إن تمكن منه، وإن لم يكن العالم ذا دراية واستقلال بعظائم الأشغال، فذو الكفاية الوالي قطعا، وعليه المراجعة والاستعلام في مواقع الاستبهام، ومواضع الاستعجام".
وهذا الذي استشرفه إمام الحرمين في القرن الخامس الهجري قد وقع فعليا في القرن الرابع عشر الهجري وتحديدا سنة 1342هـ / 1924م بعد أن سقطت الخلافة العثمانية، وكان حادثا مدويا أصاب عموم المسلمين بصدمة وحالة من الذهول، حيث أصبح منصب الخلافة خاليا، وهو المنوط به رعاية المصالح الدينية والدنيوية، وجمع شتات المسلمين وتوحيد كلمتهم، وانقسمت البلاد الإسلامية إلى دول ودويلات رسمت حدودها اتفاقية "سَيكِس بيكو".
وهذه البلاد المقسمة صار لكل واحدة منها دستور ورئيس وقانون يحكمها وسيادة على أراضيها مستقلة عن غيرها.
وفي ظل هذا الواقع الجديد كانت هناك محاولات كثيرة لمعرفة حكم هذه النازلة والواجب فيها، وانقسمت هذه المحاولات في هذا الميدان الخطير، فمنها الجادة التي سعت إلى المحافظة الهوية الإسلامية، وحقن دماء المسلمين وأرواحهم، ومنها العبثية التي تبنتها بعض الجماعات المتطرفة فوظفت فكرة الخلافة في تحقيق مآربها؛ فاستباحت الدماء والأموال باسم إعادة الخلافة.
وقد وجدنا في تلك المحاولات الجادة أثر إمام الحرمين بارزا فيها، ومن ذلك فتوى دار الإفتاء المصرية فقد أصدرت فتوى مطولة بعنوان: "الخلافة والدولة الإسلامية" أجابت فيها عن سؤال نصه:
هل توجد دولة بعد الخلافة العثمانية تعدُّ دولة إسلامية، وما حكم طاعة الحكام في هذه الحالة؟
وبعد أن استهلت جوابها ببيان معنى الخلافة وحكم إقامتها قالت: "وهذه البلاد المقسمة صار لكل واحدة منها دستور ورئيس وقانون يحكمها وسيادة على أراضيها مستقلة عن غيرها؛ ومن هنا فإنه يمكن أن نعدَّ هذا شبيهًا بالدويلات التي كانت قائمة في عصر ضعف الخلافة، فهي وإن كانت غالبًا تخضع للخلافة ولو في الصورة، فإن بعضها قد انفصل نهائيًّا وصار هناك أكثر من خلافة، كما حدث في دولة الأندلس حين بدأت تابعة للخلافة ثم غلب عليها عبد الرحمن الداخل فلم يعد للخليفة العباسي إلا الدعاء له، ثم منع الدعاء له وتسمت الدولة باسم (الإمارة)، ثم أعلنت (الخلافة).
ومع ذلك كانت تقوم بأمر الخلافة كاملًا من أمور اقتصادية وحربية وقضائية وغير ذلك، ولم يمتنع الجند من الجهاد في الدولة، وكذا باشر الأئمة في المساجد أعمالهم، وتصدى القضاة والفقهاء للقضاء والفتيا والتدريس والتصنيف.
قال ابن خلدون في "مقدمة التاريخ" (1/ 260، ط. دار الفكر): [صار الأمر إلى المُلك وبقيت معاني الخلافة من تحرِّي الدِّين ومذاهبه والجري على منهاج الحقِّ، ولم يظهر التَّغيُّر إلَّا في الوازع الَّذي كان دِينًا ثم انقلب عصبيَّة وسيفًا، وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصَّدر الأوَّل من خلفاء بني العبَّاس إلى الرَّشيد وبعض ولده، ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبقَ إلَّا اسمها وصار الأمر مُلكًا بحتًا، وجرت طبيعة التَّغلُّب إلى غايتها واستعملت في أغراضها من القهر والتَّقلُّب في الشَّهوات والملاذِّ، وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك ولمن جاء بعد الرَّشيد من بني العبَّاس واسم الخلافة باقٍ فيهم؛ لبقاء عصبيَّة العرب، والخلافة والملك في الطَّورين ملتبس بعضهما ببعض، ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبيَّة العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم وبقي الأمر ملكًا بحتًا، كما كان الشَّأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبرُّكًا والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم وليس للخليفة منه شيء، وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب، مثل صنهاجة مع العبيديِّين ومغراوة وبني يفرن أيضًا مع خلفاء بني أميَّة بالأندلس والعبيديِّين بالقيروان، فقد تبيَّن أنَّ الخلافة قد وجدت بدون الملك أوَّلا ثم التبست معانيهما واختلطت، ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيَّته من عصبيَّة الخلافة، والله مقدِّر اللَّيل والنَّهار وهو الواحد القهَّار] اهـ.
وعليه: فمن حكم دولة من هذه الدول المعاصرة فإن له حكم الإمارة، فيجب على الناس أن يطيعوه، ما لم يأمرهم بمعصية؛ فالغرض من الإمامة هو بعينه ما يقوم به رئيس الدولة حديثًا؛ من نحو سياسة الناس وتدبير شؤونهم وتنفيذ الأحكام وتجهيز الجيوش وكسر شوكة المجرمين والأخذ على أيديهم، وإظهار الشعائر، وهو ما قام به أمراء الدويلات قديمًا، وبما قامت به الخلافات المتعددة الخارجة عن الخلافة الأم..."
"ونقل إمام الحرمين في "غياث الأمم" (ص 387) عن بعض العلماء أنه قال: [لو خلا الزمان عن السلطان فحق على قُطَّانِ كل بلدة، وسكان كل قرية، أن يقدموا من ذوي الأحلام والنهى وذوي العقول والحجا من يلتزمون امتثال إشاراته وأوامره، وينتهون عن مناهيه ومزاجره؛ فإنهم لو لم يفعلوا ذلك، ترددوا عند إلمام المهمات، وتبلدوا عند إظلال الواقعات] اهـ.
وعلَّق الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني جواز نصب إمامين في إقليمين عند الحاجة؛ قال الإمام النووي في "الروضة" (10 /47، ط. المكتب الإسلامي): [وقال الأستاذ أبو إسحاق: يجوز نصب إمامين في إقليمين؛ لأنه قد يحتاج إليه، وهذا اختيار الإمام -يعني الجويني] اهـ.
كما يؤيد ذلك القاعدة الشرعية أنَّ "الْمَيْسُور لَا يَسْقُطُ بِالْمَعْسُورِ"؛ فإذا كان المطلوب شرعًا أن يكون الأمراء حاكمين الدول تحت إمرة واحد، هو الخليفة، ثم تعسَّر وجود الخليفة، لم يسقط وجوب حكم أمراء الدول، وفي معناهم رؤساء الدول المعاصرة.
كما أن القول بغير هذا يؤدي إلى أن يصير الناس ولا رئيسَ لهم ولا ضابط يسوسهم، وهذا مآله إلى الفوضى وعدم استقرار أمور البلاد والعباد، وهو ضد مقصود الشارع من كل وجه؛ لغلبة المفاسد المترتبة عليه التي تَكِرُّ على المقاصد الشرعية الخمسة التي جاءت كل الملل بحفظها بالنقصان أو بالبطلان، وهي: حفظ النفس والعقل والدين والعرض والمال.
ولذلك فإن المتصفح للفقه الإسلامي يجد أن الفقهاء قد أقرُّوا أشياء هي في مبدئها مذمومة، ولكنها لما وقعت ولم يكن بُدٌّ عنها لصلاح العباد والبلاد واستقرار الأمور عَدُّوها مشروعة من حيث هي وقعت، فهي من باب "ما يغتفر في الدوام ولا يغتفر في الابتداء".
ثم انتهت الفتوى إلى القول بأن الدول الذي يكون أغلب سكانها مسلمين وحكامها شرعيون هي دول إسلامية، وعليه: فإن الدول التي يتحقق فيها هذا الوصف الآن هي دول إسلامية، وحكامها شرعيون يجب طاعتهم ما لم يأمروا الناس بمعصية.