فرض الله تعالى على عباده الصيام تحقيقا للعبودية وتحصيلا للتقوى قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [البقرة: 183]، وقد أناط الله تعالى الصيام بالاستطاعة، فمن لم يستطع الصوم فله رخصة الفطر، عملا بقوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78]، وقوله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
ومن الأحوال التي تجعل المكلف غير مستطيع المرض، وقد تناولت فتاوى العلماء أحكام صيام المريض بالتفصيل قديما وحديثا، ومن ذلك:
فتوى الشيخ حسنين مخلوف بجواز الفطر للمرضى الذين يضرهم الصيام:
فقد أفتى فضيلته بجواز الفطر للمريض الذي يغلب على ظنه أن الصيام يُفضي إلى زيادة مرضه أو إبطاء بُرْئِهِ، وذلك في الفتوى رقم 2234 بتاريخ : 20/07/1949، وفيها يقول السائل: عندي مرض سكر، ولا يمكنني الاستغناء عن الماء ولا عن الغذاء، فإن صمت وامتنعت عن الماء والغذاء يحصل عندي ضعف، ولم يمكني القيام لمباشرة عملي الذي أستعين به على الحصول على معاش أولادي، فضلًا عما يلحقني من الضرر.
فأجاب فضيلته بما يلي:
اطلعنا على السؤال، والجواب أن الحنفية قد نصُّوا على أن المريض إذا غلب على ظنه بأمارة أو تجربة أو إخبار طبيب حاذق مأمون أن صومه يُفضي إلى زيادة مرضه أو إبطاء بُرْئِهِ، جاز له الفطر في رمضان، وكذلك يجوز الفطر للمريض بمرض السكر المعروف إذا كان صومه يُفْضِي إلى عدم قدرته على أداء عمله الذي لا بد لعيشه أو عيش من يعولهم، وعليه أن يقضي ما أفطره من رمضان في أيام أُخَر بعد زوال هذا العذر، فإن تحقق اليأس من زواله، وجبت عليه الفدية كالشيخ الفاني، بشرط أن يستمر عجزه إلى آخر صيامه، ولا قضاء عليه في هذه الحالة...أ.هــ
دار الإفتاء المصرية تصدر فتوى بخصوص صيام مرضى السكر:
أصدرت دار الإفتاء المصرية الفتوى رقم 3096 بتاريخ 17/3/2016م بخصوص مرضى السكر بفئاتهم الثلاث، إجابة عن السؤال التالي:
ما حكم الصيام لمرضى السكر على اختلاف درجاتهم، حيث تم تقسيمهم طبيًّا إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى: المرضى ذوو الاحتمالات الكبيرةِ جدًّا للمضاعفات الخطيرة بصورةٍ شبه مؤكدةٍ طبيًّا، وهذه الفئة يقول المتخصصون بأنها معرضة لحصول ضررٍ بالغٍ عند الصيام.
الفئة الثانية: المرضى ذوو الاحتمالات الكبيرة للمضاعفات نتيجة الصيام، وهذه الفئة يغلب على ظن الأطباء المتخصصين وقوع ضررٍ بالغٍ عليهم عند الصيام.
الفئة الثالثة: المرضى ذوو الاحتمالات المتوسطة أو المنخفضة للتعرض لمضاعفاتٍ نتيجة الصيام.
فما حكم الصوم لهذه الفئات على اختلاف درجاتهم؟
وبعد أن ذكرت الدار أن من شروط الصيام الاستطاعة بينت حكم صيام المريض بصفة عامة ثم فصلت حكم صيام مرضى السكر على النحو التالي:
ومرض السكر على اختلاف درجاته هو من الأمراض المزمنة، ومعرفة أحكام مرضاه من جهة الصوم الواجب مبنية على معرفة طرق العلاج المتاحة لهم طبيًّا في كل فئة من الفئات المذكورة.
ومن المعلوم طبيًّا -كما يذكر المتخصصون- أن التعامل مع مرضى السكر على اختلاف فئاتهم يكون من خلال عدة طرق:
الطريقة الأولى: وهي ما يتم علاج المريض فيها عن طريق تنظيم الوجبات الغذائية مع ممارسة التدريبات البدنية. فهؤلاء عليهم أن يصوموا، ولا خوف عليهم من ذلك؛ لأن مرضهم من النوع الخفيف الذي لا يؤثر عليه الصيام، ولكن إذا تبين وجود ضرر عند الصيام عن طريق رأي الطبيب فعليهم بالأخذ بالرخصة وهي الإفطار وإخراج الفدية عن كل يوم إطعام مسكين.
الطريقة الثانية: وهم المرضى الموصوف لهم بعض العقاقير، مع برنامج الغذاء المحدد، وهم نوعان:
1- نوع يأخذ عقاقير السكر مرة واحدة في اليوم، فهذا لا إشكال في صومه، لأنه من الممكن أن يأخذها قبل الفجر مباشرة.
2- ونوع يتناول الحبوب مرتين أو ثلاث مرات يوميًّا، وفي هذه الحالة إذا أمكنه أن يأخذ الحبوب قبل الفجر، وبعد الإفطار، دون ضرر يلحقه فعليه أن يصوم، وإن كان يضر به تأخير الحبوب فعليه أن يأخذها ويترك الصوم.
الطريقة الثالثة: وهم المرضى الذين يتعاطون حقن الأنسولين مرة أو مرتين أو أكثر في اليوم فإن صام مريض السُّكَّر الذي يعالج بالأنسولين فهذا جائز شرعًا ولا يفسد الصيام؛ لأن المُضِرَّ بالصيام إنما هو ما وصل عمدًا إلى الجوف المنفتح أصالةً انفتاحًا ظاهرًا محسوسًا؛ وانفتاح المسام والشعيرات الدموية والأوردة والشرايين بالحَقْن الوريدي أو الجلدي أو العضلي أو نحو ذلك ليس ظاهرًا ولا محسوسًا، فلا يَصْدُقُ على المادة المحقونة بها أنها وصلت إلى الجوف عن طريق مَنْفَذٍ طَبَعِي مفتوح؛ سواء أكانت في الوريد أم في العضل أم تحت الجلد، وسواء أكانت دواءً أم غذاءً...
فإن غلب على ظن المريض أنه إن صام حصلت له مشقة، أو صام ثم حصلت له المشقة؛ سواء باشتداد وطأة المرض عليه، أم احتاج إلى تناول الدواء، أم غلبه الجوع أو العطش -وهذا هو حال غالب مرضى السُّكَّر- جاز له أن يفطر، بل ويجب عليه أن يفطر إذا خشي على نفسه من الهلاك؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ [النساء: 29]، وقوله تعالى: ﴿وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾ [البقرة: 195].
قال العلَّامة الخطيب الشربيني في "مغني المحتاج" (2/ 169، ط. دار الكتب العلمية): [وإن عاد المرض واحتاج إلى الإفطار أفطر، ويجب الفطر إذا خشي الهلاك؛ كما صرح به الغزالي وغيره، وجزم به الأذرعي، ولمن غلبه الجوع أو العطش حكم المريض] اهـ.
وبناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن أحكام الصيام لفئات مرضى السكر مترتبة على الطرق العلاجية التي يمكن التعامل بها مع كل فئة بما يناسبها على التفصيل المذكور، فإذا تأكدت احتمالات الضرر من الصيام لمريض السكر -كما هو مذكور في الفئة الأولى- وجب على المريض طاعة الطبيب في الإفطار، ويأثم إن صام، وإذا غلب احتمال الضرر على ظن الأطباء المتخصصين -كما هو مذكور في الفئة الثانية- وجب الإفطار وطاعة الطبيب كذلك؛ لأن المَظِنَّة تُنَزَّل منزلة المَئِنَّة.
أما إذا كان احتمال الضرر من الصوم متوسطًا أو ضعيفًا -كما في الفئة الثالثة-: فإن الأخذ برخصة الإفطار حينئذٍ يكون أمرًا تقديريًّا، أي إن مرجعه في معرفة ضرر الصوم وما قد يجره عليه من أذًى هو إلى الطبيب المتخصص من جهة معرفة حالته ومضاعفاتها، وإلى المريض من جهة طاقته وقدرته على الصيام واحتماله له؛ فيُقدِّر الطبيب مدى تأثير الصوم على حالة المريض من حيث إمكانية الصوم من عدمه، ويقدر المريض مدى قدرته واحتماله للصوم.
مع التنبيه على أنه يجب على المريض في كل فئة من هذه الفئات الثلاث أن يستجيب للطبيب إن رأى ضرورة إفطاره وخطورة الصوم عليه. أ.هــ
دار الإفتاء الأردنية تبين حكم صيام المريض الذي لا يقوى على الصيام:
وذلك في ردها على السؤال التالي: والدتي عمرها 70 عاماً، أصيبت بمرض السكري منذ خمسة أعوام، وهي صوامة قوامة، وترى نفسها مرتاحة نفسياً وصحياً، وأجرت إزالة للمعدة منذ عام، وكانت توصيات الأطباء الأساسية هي الأكل على دفعات من 7-9 وجبات يومياً، وأن موضوع الأكل هام جداً، مع العلم أنها مسألة حياة أو موت كما وصف الأطباء، فما حكم صيامها؟
فكان جوابها في الفتوى رقم: 3499 بتاريخ 9/5/2019م، بما نصه:
شرع الله تعالى من الأحكام ما يحقق حفظ النفس ويحميها من الأضرار، وأوجب على الناس القيام بكل ما يحفظ أنفسهم واجتناب ما يتلفها؛ قال الله تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} النساء/29.
ولذلك فقد رخص الله تعالى للصائم غير المطيق للصوم الفطر في شهر رمضان؛ قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} البقرة/184، وأما إذا أدى به صومه إلى الهلاك أو الضرر الشديد فإنه يجب على المريض الإفطار؛ قال الإمام الشربيني الشافعي رحمه الله: "ويجب الفطر إذا خشي الهلاك كما صرح به الغزالي وغيره وجزم به الأذرعي" [مغني المحتاج 2/ 169].
ويتنبه إلى أن المريض إذا صام مع مرضه فصومه صحيح، ولكنه يأثم إذا علم أن الصوم سيضر به كثيراً.
فنصيحتنا للوالدة أن تأخذ برخصة الفطر وتجتنب الصوم، مع لزوم الفدية عن الأيام التي تفطرها، وأن تكثر من الأعمال الصالحة الأخرى، كالقيام والدعاء وقراءة القرآن وغير ذلك، فهذا هو الذي تطيقه، والله تعالى يقول: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} البقرة/286. والله تعالى أعلم.
وبعد أن عرضنا لبعض فتاوى المؤسسات الإفتائية بخصوص صيام المرضى، نهيب ببعض المرضى الذين يدفعهم الحرص على اغتنام رمضان أن يتكلفوا صيامه؛ حتى لا يفوتهم الأجر، نقول لهم: إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، والله سبحانه قد خفف عنكم، ولكم من الأجر على قدر نيتكم.